وإنه قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، وقسم في تاريخ الفقه الإسلامي، وقسم في المذاهب والعقائد الإسلامية. وأخذ يطري الكتاب ويحكي بعض آرائه، فاستفزني الموضوع وقلت: هل تستطيع الآن أن تذهب معي إلى مدرسة (برليتز) لأرتب دروسا لي في الإنكليزية؟ فقبل، وأقسمت أن أتعلم وأن أقرأ هذا الكتاب في لغته، وذهبنا إلى المدرسة ورتبنا دروسا ثلاثة في الأسبوع بمائة وخمسين قرشا كل شهر.
واشتريت الكتاب الأول، وتولت تعليمي سيدة إنجليزية يظهر عليها أنها فقيرة الحال، تحسن الإنجليزية لأنها إنجليزية، وإن لم تكن مثقفة إلا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهودا شاقا، أقرأ في البيت وأحفظ في الطريق وأذاكر إذا كنت مراقبا في الامتحان أو مشرفا على حصة ألعاب رياضية؛ والدراسة بهذا الشكل عسيرة إذ لم أكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم أكن في بيئة تعود سمعي اللغة، ويقول لي الشيخ الخضري؛ لقد جرب هذه التجربة مئات من طلبة دار العلوم، فساروا خطوات ثم وقفوا، ولم ينجح منهم إلا من كان بعثة إلى إنجلترا؛ فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سأنجح إذا فشلوا.
وبعد شهرين في هذا الجهد أحضرت كتيبا صغيرا عنوانه «الإسلام
Islam » للسيد أمير علي، وقلت إن موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم. ولكني قرأت الصفحة الأولى فلم أفهم، فظللت أصرف أكثر من ثلاث ساعات في الصفحة، أكشف في المعجم الإنجليزي العربي عن كل كلمة حتى «من» و«عن» وأنا جاد صابر. مكثت على ذلك سنة، أتممت فيها الجزء الأول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية. وفيه بعض فصول في الأدب الإنجليزي وتاريخه، فأحسست أن هذه المدرسة غير ملمة بتاريخ الأدب وأنها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب، فبحثت عن مدرس آخر أو مدرسة أخرى.
ووقفت إلى سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقلي ونفسي.
مس بور (Power)
سيدة في نحو الخامسة والخمسين من عمرها، ضخمة الجسم مستديرة الوجه، يوحي مظهرها بالقوة والسيطرة بسيطة في ملبسها وزينتها. مثقفة ثقافة واسعة، تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها، عرفت الدنيا من الكتب ومن الواقع، أقامت في فرنسا سنين وفي ألمانيا سنين وفي أمريكا سنين فكملت تجاربها واتسع أفقها؛ حضرت إلى مصر ووافقها جوها فأقامت فيها ولكن ليس لها من المال ما يكفيها للإقامة الطويلة، فهي تستأجر بيتا خاليا في ميدان الأزهار وتفرش حجراته، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيها في الشهر تكون أساس عيشها، ثم هي رسامة فنانة، تأخذ أدواتها إلى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الأهرام والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل أو نحو ذلك من مناظر طبيعية جميلة ترسمها بالزيت وتتأنق فيها، وتقضي في رسمها الأيام والأشهر وتبيعها بثمن كبير، ثم هي تدرس الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة،
2
ثم هي تقبل أن تدرس لي درسا في اللغة الإنجليزية بجنيهين كل شهر، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة أم قوية لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.
ابتدأت أدرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز، أقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما أخطأت، ثم أضع الكتاب وأحدثها وتحدثني في أي موضوع آخر يعرض لنا، ولا أدري لماذا لا يعجبها مني أن أضع العمامة بجانبي إذا اشتد الحر، بل تلزمني دائما بوضعها فوق رأسي. ونستمر على ذلك نحو الساعتين أتكلم قليلا وتتكلم كثيرا، 1وتنفق أكثر ما تأخذه مني في أشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض أصحابها الإنجليز من رجال ونساء إلى الشاي، وتدعوني معهم لأتحدث إليهم ويتحدثوا إلي، فأسمع لهجاتهم ويتعود سمعي نطقهم، وأصغي إلى آرائهم وأفكارهم وأقف على تقاليدهم، ومرة ترسلني إلى سيدة إنجليزية صديقة لها أكبر منها سنا قد عدا عليها المرض فألزمها سريرها لأتحدث إليها. تقصد بذلك أن هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجا من كربتها، وأنا أجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام، فأستمع إلى قولها الإنجليزي الكثير رغم أنفي.
Página desconocida