حزمت متاعي وهي حشية ومخدة ولحاف وسجادة وملابسي وبعض كتبي وودعت أهلي وبكيت طويلا ثم سافرت، ونزلت في محطة طنطا حائرا مرتبكا لا أدري ماذا أصنع، ولم أدر أن في الدنيا فنادق ينزل فيها الغرباء. وبعد طول التفكير اهتديت إلى أن آخذ عربة وأضع فيها متاعي وأقول للسائق «إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا» - ووقفت العربة على باب المدرسة، فنزلت وتركت متاعي عند البواب ودخلت على الناظر وسلمت عليه وعرفته بنفسي، ثم طلبت أن يعطيني حجرة خالية في المدرسة لأنام فيها حتى أجد مسكنا فاستبلهني وفعل.
ويطفر ذهني الآن - عند روايتي هذا الحادث - إلى ابني يوم كان في مثل سني هذه فأراه يرحل مع طلبة الجامعة إلى أوروبا فيزور اليونان ورومانيا والنمسا وبولونيا. ويرى معالمها ويعرف الكثير من شئونها مع فرح واغتباط، فأعجب لسرعة تطور الجيل الجديد في الزمن القصير.
ثم بحثت عن مسكن في طنطا أسكنه فاهتديت أخيرا إلى غرفة في بيت في حي تبين لي بعد أنه لا يرضى عنه الكرام، وكنت إذا نزلت في الغرفة أخوض في نساء يجلسن أمام البيت في قحة وتبذل، وحرت كيف آكل وكيف أشرب وكيف أقضي وقتي.
وذهبت إلى المدرسة وتسلمت جدول دروسي من الناظر، ودخل وأنا عنده ولي أمر تلميذ يطلب إلحاق ابنه بالمدرسة، فطلب الناظر مني أن أكتب له طلبا، وناولني ورقة وقلما فتحيرت ماذا أكتب، فلا عهد لي بشيء من ذلك، وأخيرا توكلت على الله وبدأت أكتب فلأكتب أولا الديباجة، ولم أكن سمعت الفرق بين عزتلو ورفعتلو وسعادتلو، وكنت أظن أنها كلمات مترادفات، فاستخرت الله وقلت «سعادتلو أفندم»، ولا أدري ماذا كتبت بعد، وقدمتها إلى الناظر فنظر إلى كلمة «سعادتلو» ودهش؛ ثم نظر إلي وقال «سعادتلو، سعادتلو» وأنا لا أزال «أفندي» ولست بيك ولا باشا، فخجلت من نفسي وأحسست من وقتئذ أنه يحتقرني.
ساءت حالتي في بيتي، وساءت حالتي في مدرستي، وساءت حالتي في وحدتي، فطلبت النقل إلى القاهرة ولم يمض علي شهر، فجاء الرد بأن الجمعية ليس لديها مانع إذا رضي أحد مدرسي القاهرة بالبدل، فحضرت إلى القاهرة ودللت على مدرس بالجمعية بظن أنه يرضى أن يبادلني، فذهبت إليه في بيته وعرضت عليه أمري فأبى، فعرضت عليه أن أتنازل له كل شهر عن نصف مرتبي فابتسم وأبى، فاستقلت ورجعت إلى مكاني في الأزهر سالما، وكفاني فخرا أني ركبت القطار وشاهدت بلدة اسمها طنطا وعرفت الفرق بين عزتلو وسعادتلو. •••
لم أستسغ أبدا طريقة الأزهر في الحواشي والتقارير وكثرة الاعتراضات والإجابات، وإنما كانت فائدتي الكبرى من أزهر آخر أنشأه لي أبي في غرفة من غرف بيتنا، ففي مسامحات الأزهر - وما أكثرها - كان أبي هو المدرس الأزهري في هذه الغرفة وكنت الطالب الوحيد.
والحق أن أبي كان يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة - كان واضح العبارة قادرا على الإفهام من أقصر الطرق. وكان يرى في الحواشي والتقارير مضيعة للوقت. ولعله استفاد ذلك من تدريسه ببعض المدارس الأميرية واتصاله بأساتذتها؛ فقد درس بعض الوقت في مدرسة بالقلعة تسمى «المدرسة الخطرية»، وانتدب للتدريس لبعض الوجهاء مثل قاسم باشا ناظر الجهادية، ودرس اللغة العربية لسفير أمريكا في مصر، وهكذا، مما أكسبه ذوقا في التعليم وقدرة على التفهيم، وله مزية أخرى وهي كثرة مطالعاته في كتب الأدب والتاريخ واللغة، واهتمامه بجمعها. ولم يكن ذلك معروفا عند كثير من الأزهريين.
فرتب لي دروسا في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها - قرأ لي شرح الأجرومية للشيخ خالد، ثم كتاب قطر الندى، وكتاب شذور الذهب لابن هشام، ثم شرح ابن عقيل على الألفية، وكلها كتب تمتاز بوضوح العبارة وسهولة الأسلوب. فكنت أتقبل دروسه في هذه الكتب في لذة وشغف ونهم. وإلى جانب ذلك قرأ لي كتاب فقه اللغة للثعالبي، وشرح لي بعض مقامات الحريري في الأدب، وليست دراسة اللغة والأدب مما يعنى به الأزهر، ولكن عني بها أبي. ثم حبب إلي القراءة في مكتبته، فكنت أقرأ في تاريخ ابن الأثير، ووفيات الأعيان وفاكهة الخلفاء، وكليلة ودمنة ونحو ذلك، وقرأ لي كتابا في المنطق وكتابا في التوحيد، فكان هذا كله في الحقيقة أساس ثقافتي، وترك لي دروس الفقه والجغرافيا والحساب أحضرها في الأزهر.
نجحت نجاحا كبيرا، وأحسست بالتفوق على زملائي في الأزهر، حتى طلب إلي بعضهم أن أقرأ لهم شرح ابن عقيل في مسجد المؤيد في بعض أوقات الفراغ ففعلت، وصادقت بعض الإخوان ممن لهم ذوق أدبي، فكنا نجتمع في أحد المساجد نحفظ مختارات من مقامات بديع الزمان ورسائله، وأمالي القالي، وأمثال الميداني، ودلنا أحدهم على كتاب ظهر للشيخ إبراهيم اليازجي اسمه «نجعة الرائد»، يذكر فيه أحسن ما قالته العرب في الموضوع الواحد، فأحسن ما قيل في الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحلم والغضب إلخ. فاشتريناه وأخذنا أنفسنا بالحفظ منه. وظللت مع ذلك غير مرتاح لبقائي في الأزهر، ورأيت بعض زملائي يقدمون طلبا للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرسا في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة..
ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.
Página desconocida