وغص الرافعي بريقه، وتبين الهاوية تحت قدميه يوشك أن يتردى فيها بحيلة بارعة، وأحس الإبراشي باشا من ورائه يحاول أن يدفعه بعنف لينتقم لكبريائه التي مسها الرافعي بحماقته منذ بضعة أشهر ...
وحاول النجاة بنفسه من هذه المكيدة المبيتة، فلم يجد له وسيلة إلا الصمت فأوى إليه، وانقطع ما بينه وبين القصر من صلات، إلا الصلة العامة التي بين الملك وبين كل فرد من رعيته، وكان أخوف ما يخاف الرافعي أن تكون خاتمة ذلك هي انقطاع المعونة الملكية عن ولده الذي يدرس الطب في جامعة ليون على نفقة الملك، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد هذه الحادثة بأربع سنين. •••
لقد كثر ما استغل خصوم الرافعي السياسة لينالوا منه، ولقد كثر ما اتهموه بأنه من أدوات الإبراشي باشا في محاربة سلطة الأمة، وأنه صنيعته ومولاه، على حين كان هذا الموقف هو كل ما بين الرافعي والإبراشي باشا من صلات الود والموالاة! فما انقطعت صلة الرافعي بالقصر إلا في عهد الإبراشي، وما كان معه يوما على صفاء، على أنه كان تلميذا معه في مدرسة المنصورة الابتدائية فيما أذكر من حديث الرافعي.
ولقد كتب كاتب من خصوم الرافعي غداة دالت دولة الإبراشي، فصلا مؤثرا ... بعبارات بليغة ... في صحيفة من صحف الشعب،
10
يصف جناية الإبراشي باشا على الأدب، وكان من براهينه على ذلك أنه اصطنع الرافعي ليحارب بقلمه ولسانه سلطة الأمة ... وقرأت هذه المقالة مع الرافعي، ونظرت إليه فإذا هو يبتسم ابتسامة مرة، ثم قال: «هذا أديب يتحدث عن جناية السياسة على الأدب ... أرأيت ...! صدق! لقد جنت السياسة على الأدب.»
11 •••
لم يكن لهذه المقالات الثلاث التي كتبها الرافعي عن عبد الله عفيفي صدى في غير هذه الدائرة المحدودة، على أنها أنشأت بينهما خصومة صامتة ظلت مع الرافعي إلى آخر أيامه، وظلت مع الأستاذ عفيفي في أحاديثه الخاصة إلى أصدقائه، وإلى طلابه في كلية اللغة العربية بالأزهر ...
فلما مات شوقي أمير الشعراء في خريف سنة 1932، كتب الرافعي عنه مقاله المشهور في مجلة المقتطف، وذكر فيما ذكر أن شوقي لو كان مصريا خالص المصرية لما تهيأت له الأسباب النفسية التي بلغت به مبلغه في الشعر؛ لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية، ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس.
هو رأي أبداه فيما أبدى من الرأي، لم يقصد به التعريض بأحد أو الحط من مقداره، وقد يكون رأيا إلى الخطأ أو إلى الصواب، وقد يتكافأ فيه كفتا الخطأ والصواب، ولكنه رأي أبداه الرافعي مجردا من الهوى، لا يعني به إلا أن يستوفي عناصر بحثه، ولكن خصومه تناولوه على ألوان وفنون.
Página desconocida