وإلى اليوم يذكر شيخاتنا وشيوخنا في الأسرة كلمة الأمهات التي كن يرددنها لأطفالهن، كلما أصابهم ما يسوءهم من التورط في المزاح معي وراء الحد الذي أسيغه، فإذا ذهبوا إلى أمهاتهم يشكون ما أصابهم كان الجواب الذي يقال بين الضحك والغضب: امزح مع من شئت يا بني ... ولكن «كل الناس ولا عباس»!
ومن الطبيعي لطفل في هذا المزاج أن ينظر إلى مثله الأعلى، فلا يراه في صاحب التنكيت والتبكيت وصاحب المسامير، وأحسبني لم أفضل الأستاذ الإمام محمد عبده على صاحبنا النديم إلا لسبب من جملة أسباب ترجع إلى هذا المزاج، فإن وقار محمد عبده هو القدوة التي أرتضيها حين أنظر إلى النديم، فيظفر مني بالثناء ولا يظفر مني بالاقتداء، وكلاهما فيما عدا هذا الخلق صنوان ينتميان إلى الثورة العرابية، وإلى مدرسة جمال الدين وإلى العمامة والبيئة الأزهرية ...
مدرستان!
وأيا كانت أسباب الاختلاف بين النديم وبيني، فالعصر الذي نشأنا فيه لا يسمح لمدرسة واحدة أن تطغى على أفكار الناشئة في كل بقعة من بقاع البلاد المصرية ... لأنه كان عصرا مزيجا مضطربا بين عصرين ذهب أحدهما، ولم يخلفه العصر القادم على رأي واضح مقسوم بين كل فئة من الناشئين وما يوافقها وتوافقه من التفكير الحديث.
كان عصرنا «برج بابل» يبنى ويعاد بناؤه بين عام وعام ...
كنا نعيش في عصر الجامعة الإسلامية على مذاهب، ونعيش في عصر الجهاد الوطني على مذاهب، ونعيش في عصر التجديد الفكري على مذاهب، ولا نرى أمامنا مذهبا واحدا في قضية من قضايانا الكبرى، وكلها مشكلات ...
فالجامعة الإسلامية مدرستان: مدرسة جمال الدين ومدرسة الدعاة الرسميين ...
مدرسة جمال الدين تعني بالجامعة الإسلامية أن تكون جامعة شعوب متيقظة مسئولة عن شئونها مرعية الحقوق مع ملوكها وأمرائها، فضلا عن حقوقها مع الطامعين المتربصين بها ...
ومدرسة الدعاة الرسميين تعمل للملوك والأمراء، وتريد من الجامعة الإسلامية أن تكون وحدة سياسية بزعامة هذا الخليفة أو ذاك من ملوك المسلمين، وأعلاهم صوتا في مصر من كان يعمل لخليفة بني عثمان ...
ومدرسة الجهاد الوطني على هذه الحال: مذهب يعتمد على مناورات الدول وحقوق السيادة الشرعية، ومذهب يستضعف هذا الرأي، ويحسب العمل فيه من ضياع الوقت على غير جدوى، وبخاصة في أمر التعويل على السيادة العثمانية؛ لأن حقوق هذه السيادة لم تكن عصمة للمعتمد عليها، بل كان مجرد الانتماء إلى الرجل المريض صاحب التركة المنتظرة - كما كانت الدولة العثمانية تسمى في ذلك الحين - ذريعة إلى ضياع البلد في معركة النزاع على التركة، أو في مساومات التقسيم والتفريق! ...
Página desconocida