89

والعلم في عصرنا الحاضر يقر هذا الإسراء بالروح، ويقر المعراج بالروح، فحيث تتقابل القوى السليمة يشع ضياء الحقيقة؛ كما أن تقابل قوى الكون في صورة معينة قد طوع «لماركوني»؛ إذ سلط تيارا كهربيا خاصا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقر العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقر انتقال الأصوات على الأثير بالراديو، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشف لعلمنا كل يوم عن جديد. فإذا بلغ روح من القوة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقر العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها، والتي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرا صريحا، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السمو بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها.

لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني؛ لذلك ما لبثوا حين حدثهم محمد بأمر إسرائه أن وقفوا عند الصورة المادية من أمر هذا الإسراء وإمكانه أو عدم إمكانه، ثم ساور أتباعه والذين صدقوه أنفسهم بعض الريب فيما يقوله. وقال كثيرون: هذا والله الأمر البين. والله إن العير لتطرد

7

شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟! وارتد كثير ممن أسلم. وذهب من أخذتهم الريبة في الأمر إلى أبي بكر وحدثوه حديث محمد؛ فقال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس. قال أبو بكر: والله لئن كان قد قاله لقد صدق، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. وجاء أبو بكر إلى النبي واستمع إليه يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد قال له أبو بكر: صدقت يا رسول الله. ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.

ويدلل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشا لما سمعت بأمر إسرائه سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله؛ فوصف لهم عيرا مر بها في الطريق، فضلت دابة من العير فدلهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدقت العير ما روى محمد عنهما. وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في جهات نائية. ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده ؟

الفصل التاسع

بيعتا العقبة

(رد القبائل لمحمد ردا غير جميل - بشائر الفوز من ناحية يثرب - صلاة اليهود بالأوس والخزرج - إسلام بعض اليثربيين - وقعة بعاث - بيعة العقبة الصغرى - مصعب بن عمير - عودة مع الحاج إلى مكة بعد عام - المسلمون من يثرب - بيعة العقبة الكبرى - أنباؤها عند قريش - ائتمار قريش بمحمد كي تقتله - إذن محمد لمسلمي مكة في الهجرة إلى يثرب) ***

لم تدرك قريش معنى الإسراء، ولم يدرك كثير ممن أسلموا معناه الذي قدمنا؛ لذلك انصرف جماعة من هؤلاء عن متابعة محمد بعد أن اتبعوه زمنا طويلا. ولذلك ازدادت مساءات قريش لمحمد وللمسلمين حتى ضاقوا بها ذرعا. ولم يبق لمحمد رجاء في نصرة القبائل إياه بعد إذ ردته ثقيف من الطائف بشر جواب، وبعد إذ ردته كندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة لما عرض نفسه عليهم في موسم الحج. وشعر محمد بعد ذلك كله بأنه لم يبق له مطمع في أن يهدي إلى الحق من قريش أحدا. ورأت غير قريش - من القبائل التي تجاور مكة والتي تجيء من مختلف أنحاء بلاد العرب حاجة إليها - ما صار إليه من عزلة، وما أحاطته به قريش من عداوة تجعل كل نصير له عدوا لها وعونا عليها، فازدادت إعراضا عنه. ومع اعتزاز محمد بحمزة وعمر، ومع طمأنينته إلى أن قريشا لن تنال منه أكثر مما نالت لمنعته بقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب، لقد رأى رسالة ربه تقف في دائرة من اتبعه إلى يومئذ ممن يوشكون لقلتهم ولضعفهم أن يبيدوا أو أن يفتنوا عن دينهم إذا لم يأتهم نصر الله والفتح. وتطاولت الأيام بمحمد وهو يزداد بين قومه عزلة وقريش تزداد عليه حقدا. فهل ضعضعت هذه العزلة من نفسه أو أوهنت له عزما؟!

كلا! بل زاده الإيمان بالحق الذي جاءه من ربه سموا على هذه الاعتبارات التي تفت في عضد ذوي النفوس العادية، ولا تزيد أصحاب النفوس الممتازة إلا سموا وإيمانا. وظل محمد، وأصحابه من حوله، أشد ما يكون في عزلته ثقة بنصر الله له وإعلاء دينه على الدين كله. لم تزعزع منه أعاصير الحقد، بل جعل يقيم بمكة طوال عامه لا يعنيه أن ذهب مال خديجة وماله، ولا يضعضع من نفسه ضيق ذات يده، ولا يتطلع بروحه إلى شيء غير هذا النصر الذي لا ريب عنده في أن الله مؤتيه إياه. فإذا جاء موسم الحج واجتمع الناس من أنحاء شبه الجزيرة بمكة، بادأ القبائل فدعاها إلى الحق الذي جاء به، غير آبه أن تبدي هذه القبائل الرغبة عن دعوته والإعراض عنه، أو ترده ردا غير جميل. ويتحرش به بعض سفهاء قريش حين إبلاغه الناس رسالة ربه وينالونه بالسوء، فلا تغير مساءاتهم رضا نفسه وطمأنينتها إلى غده. إن الله ذا الجلال قد بعثه بالحق، فهو لا ريب ناصر هذا الحق ومؤيده. وهو قد أوحي إليه أن يجادل الناس بالتي هي أحسن،

Página desconocida