وليس الطفيل الدوسي إلا مثلا من كثير. ولم يكن عباد الأصنام وحدهم هم الذين يستجيبون لدعوة محمد. قدم عليه وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبره. فجلسوا إليه وسألوه واستمعوا له، فاستجابوا وآمنوا به وصدقوه، مما غاظ قريشا حتى سبوهم وقالوا لهم: «خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال!» ولم تثن مقالة قريش هذا الوفد عن متابعة محمد ولم ترده عن الإسلام، بل زادتهم بالله إيمانا على إيمانهم إذ كانوا نصارى، وكانوا من قبل أن يستمعوا إلى محمد لله مسلمين.
بل لقد بلغ من أمر محمد ما هو أعظم من هذا؛ بدأ أشد قريش خصومة يسائلون أنفسهم: أحقا أنه يدعو إلى الدين القيم، وأن ما يعدهم وما ينذرهم هو الصحيح؟ خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا يستمع فيه وكل منهم لا يعلم بمكان صاحبه. وكان محمد يقوم الليل إلا قليلا يرتل القرآن في هدوء وسكينة، ويردد بصوته العذب آياته القدسية على أوتار سمعه وقلبه. فلما كان الفجر تفرق المستمعون وهم عائدون إلى منازلهم؛ فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا! فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمدا عليكم. فلما كانت الليلة الثانية شعر كل واحد منهم، في مثل الموعد الذي ذهب فيه أمس، كأن رجليه تحملانه من غير أن يستطيع امتناعا ليقضي ليله حيث قضاه أمس، وليتسمع إلى محمد يتلو كتاب ربه. وتلاقوا عند عودتهم مطلع الفجر وتلاوموا من جديد، فلم يحل تلاومهم دون الذهاب في الليلة الثالثة. فلما أدركوا ما بهم لدعوة محمد من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، وإن ترك ما سمعوا من محمد في نفوسهم أثرا جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكلهم تضطرب نفسه ويخاف أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمدا معه.
ما منعهم أن يتابعوا محمدا؟ إنه لا يريد منهم مالا ولا فيهم سيادة ولا عليهم ملكا أو سلطانا، وهو بعد جم التواضع شديد الحب لقومه والبر بهم والحرص على هداهم، شديد حساب النفس، حتى ليخشى إساءة المسكين والضعيف، ويرى في المغفرة لأذى يحتمله طمأنينة لقلبه وراحة لضميره. ألم يقف مع الوليد بن المغيرة يوما وقد طمع في إسلامه، والوليد سيد من سادات قريش، فمر به ابن أم مكتوم الأعمى وجعل يستقرئه القرآن ، وألح في ذلك حتى شق على محمد إلحاحه، لما شغله عما كان فيه من أمر الوليد، فتولى عنه وانصرف عابسا؛ فلما خلا إلى نفسه جعل يحاسبها على صنيعها ويسائلها أأخطأ؟ حتى نزل عليه الوحي بهذه الآيات:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة .
3
فما دام ذلك أمره فما منع قريشا أن يتابعوه، وأن يعينوه على دعوته، وخاصة بعد إذ لانت قلوبهم، وإذ أنستهم السنون ما تدفع إليه المحافظة على القديم البالي من جمود النفس، وإذ رأوا في دعوة محمد جلالا وكمالا؟!
ولكن! أحقا أن السنين تنسي النفوس جمودها ومحافظتها على القديم البالي؟ إنما يكون ذلك عند الممتازين ومن في قلوبهم نزوع دائم إلى الكمال، هؤلاء ما يزالون حياتهم كلها يقلبون الحقائق التي آمنوا من قبل بها لينفوا ما يعلق بها من زيف بالغة ما بلغت تفاهته. وهؤلاء كأن قلوبهم وعقولهم بوتقة دائمة الغليان، تقبل كل جديد من الرأي يلقى إليها، فتصهره وتنفي خبثه وتستبقي ما فيه من خير وحق وجمال. وهؤلاء يلتمسون الحق في كل شيء وفي كل مكان وعلى كل لسان. بيد أنهم في كل أمة وعصر هم الصفوة المختارة، وهم لذلك قلة أبدا. وهم يجدون الخصومة دائما ناشئة على أشدها بينهم وبين ذوي المال والجاه والسلطان؛ لأن هؤلاء يخافون من كل جديد أن يجني على مالهم أو جاههم أو سلطانهم، وهم لا يعرفون غير هذه في الحياة حقائق ملموسة.
كل ما سوى هذه حق إذا هو أدى إلى مزيد منها، باطل إذا بعث إلى أصحابها أيسر ظل من الريبة إزاءها: رب المال يرى أن الفضيلة حق إذا زادت في ماله، باطل إذا حرمته إياه، وأن الدين حق إذا عرف كيف يسخره لشهواته، باطل إذا وقف في وجه هذه الشهوات وحطمها، ورب الجاه ورب السلطان في ذلك كرب المال سواء، وهؤلاء في خصومتهم لكل جديد يخافون منه، يستعدون السواد الذي يفيد منهم رزقه على المنادي بهذا الرأي الجديد، وهم يستعدون السواد بتقديس الصروح القديمة التي نخر السوس فيها بعد أن فر الروح منها، وهم يقيمون هذه الصروح هياكل من الحجر ليزعموا للسواد البريء أن الروح المقدس، الذي لفوه هم في أكفانه، ما برح في جلاله بين محبس هذه الهياكل.
والسواد ينصرهم أكثر الأمر؛ لأنه ينظر قبل كل شيء إلى رزقه، ولا يسهل عليه أن يدرك أن أية حقيقة لا تطيق أن تبقى حبيسة بين جدران معبد من المعابد بالغا ما بلغ جماله وجلاله، وأن في طبع الحقيقة أن تكون حرة طليقة تغزو النفوس وتغذوها، لا تفرق فيها بين نفس سيد ونفس عبد، ولا يقف نظام من النظم في سبيلها بالغة ما بلغت قسوته وبطش أصحابه في حمايته.
فكيف تريد من هؤلاء الذين كانوا يتسللون لواذا يستمعون إلى القرآن أن يؤمنوا به وهو يؤاخذهم في كثير مما يرتكبون، وهو لا يفرق بين الأعمى ومن استغنى بكثرة المال إلا بطهارة النفس، وهو ينادي الناس جميعا:
Página desconocida