120

ثم قال: وإن بكم عيلة؛ فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. وتشاور القوم فيما بينهم وكان من بين الأسرى شاعر، هو أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي، رأى خلاف القوم واستعجل النجاة فقال: لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن يا محمد، وإني لمعطيك موثقا لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا. فأمنه النبي وأرسله من غير فداء، وكان هو وحده الأسير الذي ظفر بهذا الأمان. على أنه ما لبث أن نكث عهده، وأن عاد فقاتل بعد عام في أحد. فأسر وقتل. وظل المسلمون في تشاورهم زمنا انتهوا بعده إلى قبول الفداء. وفي قبولهم نزلت هذه الآية الكريمة:

ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .

17

يقف غير واحد من المستشرقين عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النضر وعقبة ويتساءلون: أليس في ذلك ما يدل على ظمأ هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأ لولاه لما قتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا الموقعة أن يردوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا؟ وذلك تساؤل الذي يريد أن يثير في النفس عوامل إشفاق لم يكن له يومئذ موضع، ليكون له بعد ألف سنة من هذه الغزوة وما تلاها من غزوات وسيلة للنيل من الدين ومن صاحب الدين. على أن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعى إذا نحن وازنا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري دائما ما دامت الحضارة الغربية، التي تتشح بوشاح المسيحية، متحكمة في الأرض. فهل تراه يوازي شيئا إلى جنب ما يقع باسم قمح الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها؟! وهل تراه يوازي شيئا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب الكبرى؟! ثم هل هو يوازي شيئا مما حدث أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وأثناء الثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوروبا المختلفة؟!

وليس ريب في أن الأمر بين محمد وأصحابه كان ثورة قوية من محمد بعثه الله ليقوم بها في وجه الوثنية والمشركين من عبادها. ثورة قامت أول أمرها بمكة، واحتمل محمد وأصحابه من أجلها ألوان العذاب ثلاثة عشر عاما سويا. ثم انتقل المسلمون إلى المدينة وحشدوا جمعوهم وقواتهم بها، وما تزال مبادئ الثورة قائمة على أشدها في نفوسهم وفي نفوس قريش جميعا. وانتقال المسلمين إلى المدينة، وموادعتهم اليهود من أهلها؛ وما قاموا به من مناوشات سبقت بدرا، وغزوة بدر هذه - ذلك كله كان سياسية الثورة ولم يكن مبادئها؛ كان السياسة التي قرر القائم بهذه الثورة وأصحابه أن يتبعوا لإقرار أسمى المبادئ، التي جاء الرسول بها. وسياسة الثورة شيء ومبادئها شيء آخر. والخطة التي تتبع قد تختلف تمام الاختلاف عن الغاية المقصودة من هذه الخطة. أما وقد جعل الإسلام الأخوة أساس الحضارة الإسلامية، فيجب أن يسلك للنجاح سبله وإن اقتضى ذلك من العنف والشدة ما لا مفر منه.

وهذا الذي صنع المسلمون بأسرى بدر آية في الرحمة وفي الحسنى إلى جانب ما يقع في الثورات التي يتغنى أهلها بمعاني العدل والرحمة. وهو لا شيء إلى جانب المجازر الكثيرة التي قامت باسم المسيحية من مثل مجزرة سان بارتملي، هذه المجزرة التي تعتبر سبة في تاريخ المسيحية لا شيء من مثلها قط في تاريخ الإسلام. هذه المجزرة التي دبرت بليل، وقام فيها الكاثوليك يذبحون البروتستنتيين في باريس وفي فرنسا غدرا وغيلة في أحط صور الغدر وأبشع صور الغيلة. فإذا قتل المسلمون اثنين من أسرى بدر الخمسين لأنهم كانوا قساة على المسلمين، مدى الأعوام الثلاثة عشر التي احتمل المسلمون فيها صنوف الأذى بمكة، فقد كان في ذلك من مزيد الرحمة ومن اعتبار الفائدة العاجلة ما نزلت معه الآية:

ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .

18

بينما كان المسلمون في فرحهم بنصر الله وما أفاء عليهم من المغانم كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعي يحث الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها وأخبر أهلها بهزيمة قريش ومصابها في كبرائها وأشرافها وسادتها. وقد ذهلت مكة أول الأمر فلم تصدق الخبر. وكيف لا تذهل وهي تسمع أخبار هزيمتها ومقتل السادة الأشراف منها؟! لكن الحيسمان لم يكن يهذي وكان يؤكد ما يقول وهو أشد من قريش جزعا لما أصابهم. فلما استوثقوا من روايته خرجوا صعقين، حتى لقد حم أبو لهب ومات بعد سبعة أيام.

وتشاورت قريش ما تصنع فأجمعت على ألا تنوح على قتلاها مخافة أن يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بهم، وألا تبعث في أسراها حتى لا يأرب

Página desconocida