وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوي في نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبي كي يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاءوا من مكة لقتالهم. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين .
4
وقريش هم أيضا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفي حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عدد غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها؛ ذلك أن بدرا كانت موسما من مواسم العرب؛ فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل ، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدا شوكة ويزيد دعوته انتشارا وقوة، وخاصة بعد الذي كان من سرية عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرمي وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
وتردد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان فيهم مطاعا. واتبعت سائر قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم؛ لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاءوا أدنى ماء نزل محمد به.
وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليما بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبي قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغور ما وراءه من القلب،
5
ثم نبني عليه حوضا فملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتبع رأي صاحبه، معلنا إلى قومه أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلا: «نبي الله، نبني لك عريشا تكون فيه وتعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.»
وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوه واستطاع اللحاق بأصحابه في يثرب.
Página desconocida