La vida de Cristo: en la historia y los descubrimientos de la era moderna

Abbas Mahmud al-Aqqad d. 1383 AH
56

La vida de Cristo: en la historia y los descubrimientos de la era moderna

حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث

Géneros

وقد نشأ الطفل منذورا للبتولة، وذلك معنى وصفه في القرآن الكريم بالحصور، وكان عليما بالكتب الدينية، يسمعها من أبويه ويتلوها في خلواته، وكان كثير العزلة شديدا على نفسه في تهجده ونسكه، فلما ظهر بالدعوة رآه الناس في ثوب خشن من الوبر يلف حقويه بمنطقة من الجلد، يصوم أكثر الأيام، ويقتات من الجراد والعسل البري، ويهيب بالناس في صوت قوي صارم: توبوا واستعدوا، قد وضعت الفأس في رأس الشجرة، وكل شجرة لا تأتي بثمر جيد تقطع وتلقى في النار. صوت صارخ في البرية كما قال الأنبياء الأقدمون.

ولم يكن يتقي حرجا في كلامه عن ذي خطيئة أو دنس، فراح ينحى بهذا الصوت القوي الصراح على الملك هيرود؛ لأنه تزوج من هيرودية أخته وزوجها لا يزال بقيد الحياة، فلما اعتقله الملك وجيء به إلى حضرته، لم يسكت ولم يكفف عن التنديد به وبأخته ، وأمره بتطليقها فرارا من غضب الله .

وفي سهرة من سهرات اللهو التي تعود هيرود أن يحييها في قصره، رقصت بنت أخته «سلامة»

1

بين يديه، فاستحفه الطرب ووعد أن يعطيها سؤالها كائنا ما كان، فلم تسأله شيئا غير رأس يوحنا في طبق، وأصرت على طلبها فأعطاها ما سألت وهو كاره، ونجا بفعلته لأن يوحنا كان شديد اللسان على الكهان والفقهاء، فتقبلوا تلك الجريمة بغير تشهير أو اعتراض.

وقد تنكر الكهان والفقهاء للرسول الثائر قبل أن يتنكر لهم، كما يفعل الدينيون «المحترفون» عادة بالوعاظ الذين لا ينتسبون إليهم، ولا يعيشون في زمرتهم، فكان يوحنا يصيح بهم: «يا أولاد الأفاعي، لا يهجسن بأخلادكم أنكم تنتسبون إلى إبراهيم، إني أقول لكم إن الله قادر أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم.»

وكانت هذه أول صيحة من ذلك الرسول الثائر سمع فيها الناس أن الخلاص نعمة يسبغها الله على من يشاء، ولا يخص بها أبناء سلالة دون سائر السلالات البشرية، وكانت علامته على قبول المسيحيين لدعوته أن يذكر اسم الله، ويرشهم بالماء، ويمسح على رءوسهم، فهم بعد ذلك أهل للدخول في زمرة التائبين، وطلاب الخلاص، ولو لم يكن لهم نسب في آل يعقوب وإبراهيم.

هذه الدعوة الصارمة لم تلبث أن اصطدمت بعماية الشهوات، وعناد الغرور، ولكنها لم تذهب سدى بين الدهماء التي لا تضلها أهواء السيادة، وبقي اسم يوحنا مقدسا محبوبا، يخاف الأدعياء أن يجترئوا عليه، فلما أراد الكتبة، والنامسيون أن يحرجوا السيد المسيح بالأسئلة والمعميات رد عليهم حرجهم وقال لهم: أجيبوني «أولا» هل كانت رسالة يوحنا من السماء أم من الناس؟ فلم يستطيعوا جوابا؛ لأنهم إذا اعترفوا برسالته اتهموا أنفسهم، وإذا أنكروها غضب الشعب عليهم، فصمتوا مفحمين.

وليس أدل على مكانة يوحنا من ثناء يوسفوس المؤرخ الكبير عليه، وهو شديد الحذر من إغضاب ذوي الرأي والسلطان، فقد قال عنه: «إنه كان إنسانا صالحا أوصى اليهود أن يبر بعضهم ببعض، وأن يتقوا الله.» وهذه شهادة من المؤرخ يردد بها شهادة قومه، وهي شهادة للرسول، وشهادة على أنفسهم، وقد باءت دعوة الرسول الصارم بإحدى التجربتين اللتين مرت بهما دعوة الخلاص في عصره، فخرج الرسول الصارم من الدنيا، وهو يعلم أن دعوة الخلاص ضائعة إذا انحصرت في قبيل واحد، وأن الخلاص مرهون بمن يطلبه، ويخشى من فواته، ولو لم يكن من ذلك القبيل. •••

وللسيد المسيح طبيعة أخرى غير طبيعة يحيى بن زكريا، فلم يكن متأبدا، ولا نافرا من الناس، بل كان يمشي مع الصالحين والخاطئين، وكان يشهد الولائم والأعراس، ولم يكن يكره التحية الكريمة التي تصدر من القلب، ولو كانت فيها نفقة وكلفة، ووبخ تلاميذه مرة لأنهم تقشفوا وتزمتوا فاستكثروا أن تريق إحدى النساء على رأسه قارورة طيب تشترى بالدنانير، وقالوا: لماذا هذا السرف؟ لقد كان أحرى بهذا الطيب أن يباع ويعطى ثمنه للفقراء، فقال لهم - عليه السلام: «ما بالكم تزعجون المرأة؟ إنها أحسنت بي عملا، وإن الفقراء معكم اليوم وغدا، ولست معكم في كل حين.»

Página desconocida