ولما توفي أبوه، حذا حذوه في التيقظ والحراسة وحسن التدبير وسياسة الملك، فأخذ اليمن ومكة وتغلبا، ونفذ إليها ولده الملك المسعود بالمظفر يوسف، ولما أخذ الفرنج دمياط وتملكوها، جرد عزما ماضيا، وخرج بنفسه وجمع العساكر، وانتقل بهم وبجميع أهل البلد وبني مدينة مستأنفة وبنى بها جامعا ومدارس وأربطة وحمامات وخانات، ونقل إلها الناس على اختلافهم، ولم يزل محاصرا لها مضيقا على من بها حتى أخذها، وقبض على الفرنج وأخذهم اسرى ودخل القاهرة وهم بين يديه، ثم من على من أسرهم من ملوكهم وأحسن إليهم، وأطلقهم على أشياء قررها، ولو لم يكن له إلا هذا لكفي، فأنهم لما ملكوا دمياط أشرف باقي البلاد على الأخذ ولو أخذت مصر لما بقي بالشام معهم ملك لأحد، وكانت وفاته في شعبان بدمشق، وقد جاوز الستين من عمره، وكانت مدة ملكه منذ ملك مصر أربعين سنة، وعهد إلى ولده العادل حمد.
ذكر وصول عساكر المغول نواحي العراق
في صفر، وصلت الأخبار إلى أهل أربل، أن عساكر المغول عادوا إلى قصدهم في جمع كثير، فانتزح من كان بها وبالقلعة أيضا، فلما رأى زعيمها الأمير شمس الدين باتكين خلو البلد، أمر بخروج العسكر المقيم هناك إلى ظاهر البلد ثم الاستعداد للحراسة فعدلوا حينئذ عن أربل فقصدوا دقوق، وانبثوا في أعمال بغداد وعاثوا بها أشد العيث، فوصل الخبر إلى بغداد فخرج شرف الدين اقبال الشرابي مبرزا إلى ظاهر البلد، وأمر خطيب جامع القصر أبا طالب بن المهتدي بأن يحرص في خطبته على الجهاد ففعل ذلك، فبكى الناس لما سمعوا كلامه، وأجابوا بالسمع والطاعة، وقدم أهل السواد من دقوق وغيرها إلى بغداد، معتصمين بها وتضاعفت أجرة المساكن، وانزعج الناس لذلك، وتتابع خروج الأمراء والعساكر إلى ظاهر البلد، وركب الخليفة المستنصر بالله إلى الكشك، فنزل به وظهر للأمراء، وأمرهم المشورة، فقال كل واحد ما عنده، وسهل الأمير جمال الدين قشتمر الأمر في لقائهم، وعين الشرابي على جماعة من الأمراء لقصدهم، فتوجهوا إلى القليعة ونزلوا بها، فبلغهم أن المغول في جمع كثير وهم بالقرب من الجبل، فساروا نحوهم فلما قاربوهم تعبوا ميمنة وميسرة وقلبا، فلما شاهدت عساكر المغول ذلك ولوا راجعين، فتبعهم جماعة من العسكر فقتلوا منهم جمعا كثيرا وأسروا منهم جماعة، وغنموا من دوابهم وأثقالهم، وأرسلوا إلى الشرابي برؤوس كثيرة، فضربت البشارة عند مخيمه وخلع على الواصلين بالخبر واستأذن الشرابي في دخول البلد فأذن له، فدخل في مستهل ربيع الأول، هو والأمير جمال الدين قشتمر والعسكر، وأذن لنور الدين أرسلان شاه بن عماد الدين زنكي صاحب شهر زور في العود إلى بلده، وخلع عليه وعلى أصحابه، وتقدم إلى تاج الدين محمد بن الصلايا العلوي بالتوجه إلى أربل وتجديد سورها وعمارة ما خرب من دورها ونفذ معه كركر الناصري ليكون مستحفظا بقلعتها، وعين على الأمير ايدمر الأشقر الناصري زعيما بها وكان زعيمها الأمير شمس الدين باتكين قد فارقها.
ثم تقدم، بعمارة سور بغداد وقسم بين أرباب الدولة فسلم إلى نواب ديوان الأبنية منه قطعة مما يلي دار المسناة وقسم العمل بين ثلاثة، وهم فخر الدين المبارك بن المخرمي صاحب الديوان، وابن أبي عيسى صدر المخزن، وتاج الدين علي بن الدوامي حاجب الباب ووقع الحث على ذلك.
ثم وصل الخبر في شهر رجب المبارك أن عساكر المغول قد سارت نحو بغداد، فتقدم إلى الأمراء بالخروج إلى ظاهر البلد فخرج الأمير جمال الدين بكلك الناصري، والأمير جمال الدين قشتمر وغيرهما من الأمراء، وخيموا ظاهر البلد، وكاتب الخليفة ملوك الأطراف يستنجدهم ويعرفهم الحال، فوصل في شهر رمضان ولدا الملك الأمجد فرخشاه صاحب بعلبك، وهما الملك السعيد شاهنشاه والمظفر عمر ومعهما ألف فارس، فخرج الموكب إلى لقائهما فدخلا وقبلا العتبة فخلع عليهما، وعلى الأمراء الواصلين صحبتهما ثم خرجا وأنزلا في المخيم بظاهر السور.
Página 30