أجل، دين الحب، هذا هو الذي دعا إليه رينان، وهو رسالة حياته.
دستوفسكي
ذكاء العاطفة
كان من حظي الحسن أن هبطت على الأدباء الروس وأنا حوالي العشرين، فارتفعت بذلك إلى مستوى من التقدير للفن القصصي، جعلني في مستقبل عمري أتأنق وأحجم عن قراءة تلك القصص الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، التي لا ترتفع إلى مقام المؤلفات العظيمة التي ألفها تولستوي ودستوفسكي وجوركي وجوجول وتيشهوف وترجنيف. والحق أن الانتقال من دستوفسكي الروسي إلى أرنولد بنيت الإنجليزي هو وثبة إلى الحضيض يفزع منها الإنسان، والانتقال من تولستوي إلى أي أديب آخر في أوروبا أو أمريكا هو انهيار فادح.
وأحيانا أحاول أن أعلل حبي لهؤلاء الأدباء الروس بأن الحال الاجتماعية التي وصفوها كانت تشبه حالنا في مصر، وأن الوسط الاجتماعي الأوروبي الأمريكي كان يجري على نظم ديمقراطية حرة، لا تتيح للأوروبي أن يستمرئ هذا المجتمع الروسي القديم، وما حفل به من فوضى وفاقة واستسلام وركود. ولكن هذا التعليل لإحساسنا بتفوق الأدب الروسي على الآداب الغربية لا يكفي، وقد حدث لي ما يشبه ذلك في الموسيقا، فإني في مقتبل عمري عرفت الموسيقا الأوروبية الكنسية والمسرحية، فارتفع ذوقي إلى حد الكراهية، بل العداء للموسيقا الشرقية الباكية الجنسية المخنثة، فلست أطيق إلى الآن أغنية أو لحنا مصريين، بل إني أوثر عليها «موالا» من تلك المواويل التي يغنيها فلاحونا، فإن فيه أحيانا من الصدق والرجولة ما يبعث على الاحترام، في حين نشمئز من الأغاني والألحان المصرية الحاضرة لما فيها من التباكي والتخنث. ولعل ميزة أوروبا علينا في الموسيقا أنها أدخلتها الكنائس، فأكسبتها شيئا يقارب حرمة الدين، وهذا في الوقت الذي تركنا نحن فيه موسيقانا وأغانينا تعيش وترافق الرقص الذي كانت تمارسه البغايا، وقد كان رقصا جنسيا مخنثا فسقطت مكانة الموسيقا والأغاني في نفوسنا. •••
ولد دستوفسكي في عام 1822 ومات في عام 1881، وكان مريضا طوال حياته، تنتابه نوبات من الصرع، وقد أخرج قصته الأولى «المساكين» في عام 1846 ووثب بها إلى مصاف الأدباء الأفذاذ، وفي عام 1849 ألقي القبض عليه بتهمة الاشتراك في جمعية سياسية غير مشروعة، وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى النفي إلى سيبريا حيث قضى أربع سنوات ألف عنها كتابا بعد ذلك باسم «ذكريات من بيت الموتى». وبعد سنوات أخرى في الجندية والسياحة استقر على التأليف القصصي، فأخرج «الإخوة كارامازوف» وهي الأولى بين قصص العالم جميعها، وأخرج أيضا قصة «الجريمة والعقاب»، وقد بعثتني حماستي لها أني في سنة 1911 ترجمت منها نصفها، ثم طبعت الربع بهذا الاسم ولم أتمم الترجمة.
وتتسم قصصه بحنان ورقة يشيعان في نفوسنا إحساس الدين، وهي جميعا دعوة إلى الخير وحب الأطفال وحماسة الأمومة، ولذة التضحية، وارتفاع عن الدنايا المادية ونحو ذلك، وقد كانت حياته هو نفسه مليئة بهذه العواطف. •••
ولنذكر شيئا مما وقع له، ولعله كان لهذه التجربة القاسية أثر في فنه. ففي يوم 22 أبريل من عام 1849 ألقي القبض في بطرسبورج على نحو ثلاثين شابا كان بينهم دستوفسكي، وكانت التهمة الخطيرة التي اتهموا بها أنهم اجتمعوا واحتفلوا بميلاد الكاتب الفرنسي فورييه، وكان فورييه مشهورا ببرنامج يقترحه لتغيير المجتمع، وهو حين نقرؤه هذه الأيام نجد فيه سخفا عظيما؛ ذلك أنه ينص على تأليف جماعات لا تزيد إحداها على 1600 شخص يعيشون معا متعاونين مستقلين عن الجماعات الأخرى. وقيل إن هؤلاء الثلاثين المجتمعين في بطرسبرج قد تآمروا على ترجمة كتاب فورييه هذا، ومما زاد في هذه «المؤامرة» الخطيرة أن أحد الحاضرين قرأ خطابا من أديب يدعى بيلنسكي إلى القصصي جوجول يوبخه فيه؛ لأنه عاد إلى الإيمان بعد الكفر، وبعد أن قضى المتهمون سبعة أشهر في السجن حكم عليهم بالإعدام، ثم قضوا شهرا آخر قبل التنفيذ، وفي يوم التنفيذ نصبت أعمدة في أكبر ميدان في بطرسبرج ثم ألبس المتهمون جلاليب بيضاء، وعلى رأس كل منهم طرطور وأخرجوا في الصباح من يوم 22 ديسمبر، والثلج يغطي الأرض. ثم حضر قسيس يحمل صليبا من الفضة، ويطلب إلى كل منهم تقبيله حتى يغفر لهم في العالم الآخر. ووقف ستة عشر جنديا يحملون البنادق، وربط كل منهم إلى العمود كي يتلقى الأعيرة النارية، ثم أمر الجنود بفتح الأزندة استعدادا لإطلاق النار، وفي هذه اللحظة فقط أعلنوا جميعهم بأن القيصر قد استبدل بحكم الإعدام الحكم بالنفي إلى سيبيريا أربع سنوات. وبعد هذه المأساة أو المهزلة سافروا إلى سيبريا، وقبل السفر كتب دستوفسكي إلى شقيقه هذا الخطاب التالي:
قلعة بطرس وبولس في 22 ديسمبر سنة 1849
أخي، صديقي الحبيب، كل شيء قد تم، وحكم علي بالسجن والأشغال الشاقة أربع سنوات في القلعة (أظنها قلعة أورنبورج)، وبعد ذلك ألتحق بالجيش جنديا، وفي هذا اليوم 21 ديسمبر نادونا إلى مكان العرض في سميونوف وقرءوا علينا الحكم بالإعدام، ثم أمرونا بأن نلثم الصليب، ثم كسروا سيوفنا فوق رءوسنا، ثم نزعوا ملابسنا وألبسونا القمصان البيض، وبعد ذلك ربطوا ثلاثة منا إلى عمود كي يضربوا بالبنادق، وكان ترتيبي السادس، وكان النداء على ثلاثة كل مرة، وكنت أنا بذلك في الفرقة الثانية فلم يكن باقيا لي من الحياة سوى دقيقة، وقد ذكرتك أيها الأخ أنت وأولادك، وفي هذه الدقيقة لم أذكر سواك يا أخي وحبيبي، وعرفت عندئذ مقدار حبي لك ، وقد تمكنت من أن أقبل بلاتسياف ودوروف، وكانا واقفين جانبي وودعتهما، وأخيرا نفخ البوق وأعلن الأمر بالرجوع، وحل الذين كانوا قد ربطوا إلى العمود، ثم قرئ علينا أمر صاحب الجلالة الإمبراطورية بمنحنا حياتنا، والحكم علينا بالأحكام الجديدة. ولم يفرج عن أحد سوى بالم الذي أرجع إلى الجيش برتبته السابقة. وقد أبلغت يا أخي الحبيب بأنهم سيرسلونني اليوم أو غدا، وقد طلبت رؤيتك، ولكنهم أخبروني بأن هذا محال، وأن كل ما يستطيعونه أن يسمحوا لي بالكتابة إليك، فأسرع وابعث لي الرد. وأنا أخشى أن يكون قد بلغك الحكم علينا بالإعدام، فقد نظرت من نافذة العربة التي حملتنا إلى ساحة الإعدام ورأيت في الطريق جمهورا كبيرا، وخشيت أن يكون من رأوني قد أبلغوك وآلموك بذلك، ولكن الآن يمكنك أن تهنأ بشأني. يا أخي، لا تظن أن الحكم قد هدني أو غم علي، فالحياة في كل مكان هي الحياة، هي في داخلنا وليست فيما هو خارج عنا، وسيكون قريبا مني أناس، وسأكون رجلا بينهم وأبقى كذلك إلى الأبد، ولن يهن قلبي أو تفشل عزيمتي أمام المصائب، وهذا في اعتقادي هو الحياة أو الواجب في الحياة، وقد حققت ذلك وصار هذا الخاطر جزءا من لحمي ودمي. أجل، هذا صحيح، فهذا الرأس الذي كان يبتكر ويعيش في أسمى الحياة الفنية، والذي حقق أسمى الحاجات الروحية واعتقادها، هذا الرأس قد قطع من عاتقي ولم يبق عندي سوى الذكريات والخيالات التي أخترعها، ولكنها لم تتجسم في بعد، وإني لأعرف أنها ستمزقني، ولكن ما يزال باقيا لي قلبي وهذا اللحم والدم الذي ما يزال قادرا على الحب والألم والرغبة، ولا تنس أن هذه هي الحياة، أجل ما زلت أرى الشمس. والآن وداعا يا أخي ولا تحزن من أجلي.
Página desconocida