فضحكت وقالت: لا تخدعني يا ولدي، فإن رطانتي بالأسبانية لا تقل عن رطانة الأسبان بالعربية، ولكن الذي يؤلمني في الأمر أن بعض قصار العقول من رجال الدولة، يرمونني بحب الأسبان لأنني أعرف لغتهم. وحب الأسبان أصبح جريمة لا تغتفر في هذا الزمن الأغبر المملوء بالدسائس والفتن. إنني عربية النبعة، هكذا كان يقول لي أبي، ولكني لا أستبعد أن يكون في دمي قطرات من وراثات أسبانية، أبوح بذلك للأصدقاء ليس غير يا أسبيوتو. إن الحال في قرطبة لا تعجبني، أنا أريد حكما سمحا لطيفا لا يحس المحكوم فيه بسيف الحاكم يلمع فوق رأسه.
فأصاب أسبيوتو شيء من الدهش لأنه سمع كلاما جريئا لم يألف سماعه في قرطبة، فقال: إن العرب يا سيدتي من أصلح خلق الله لحكم الأمم، وإن من يقرأ القرآن ويتفهم ما سن من قوانين لسياسة الحكم، وحسن معاملة الأمم المغلوبة، يملؤه العجب والإكبار معا. - صحيح. ولكن من يعمل الآن بكتاب الله وما فيه من هدى ونور؟ أترى هذا التنابذ والتحاسد بين أمراء الأندلس؟ إنه كارثة جائحة. ثم تبسمت وقالت متهكمة: وربما كنت لا أدري، ورب ضارة نافعة. ثم وقفت أمام خزانة كتبها وقالت: تجد في هذه الخزانة كتبا كثيرة في الشعر والأدب.
فوقف أسبيوتو ومد يده في حذر إلى رف كتب الطب، وقال: إن لديك كتبا كثيرة في الطب يا سيدتي. - أستطيع أن أعيرك بعضها. - فأخرج كتابا لابن حسداي الطبيب اليهودي في أيام الناصر لدين الله، وقلب صفحاته، ورأى إلى جانبه كتاب الأدوية ليونس الحراني فأسرع بيده وقال: هذا كتاب نادر يا سيدتي. - إنه بخط مؤلفه.
وبينما هو يقلب صفحاته إذ سقطت الصحيفة التي كتبتها نائلة على الأرض، فانحنى ليأخذها، فرأى في صدرها اسم ملك الأسبان فبهت وامتد بصره إلى السطور الأولى منها، ولمحته نائلة فلبسها الغضب، وانقلبت نمرة شرسة ضارية، ومدت يديها إلى عنق أسبيوتو وهي تصيح في ذعر يشبه الجنون: هل قرأت ما في الصحيفة؟ هل امتدت عينك إلى كلمة فيها؟ يا للنحس! ويا للشئوم! ويا للداهية الدهياء! إن كلمة واحدة تخرج من هذه الصحيفة كفيلة بضرب عنقي. قل: هل قرأت منها كلمة أو جملة؟ فذعر أسبيوتو وارتجف وقال وهو يتمتم. لم أقرأ منها إلا «إلى ملك الأسبان العظيم» ثم سطرا بعد ذلك.
فهمت نائلة وأغلقت الباب، وقالت وعيناها تتقدان: أنت الآن تعرف سري، فيجب أن يموت أحدنا، ولست أريد أن أموت. لن تخرج من هذا الدار حيا؛ وما كنت أود أن أقتل شابا أحب قومه، ولكن ما حيلتي وتطفل الشاب ودسه أنفه في كل شيء هو الذي قضى على حياته!
فزاد رعب أسبيوتو وقال متعلثما مضطربا: هوني عليك يا سيدتي، فإنه لم يطلع على سرك إلا جاسوس للأسبان. فتصنعت نائلة الدهشة والسرور وهمست: أنت جاسوس للأسبان؟! - نعم يا سيدتي. وقد سرني أن أرى مثلك معنا.
فتنفست نائلة الصعداء شأن من تفتح له أمل بعد يأس، وأحس بأمن بعد خوف، وقالت: مع من تعمل يا أسبيوتو؟ - مع واحد أو اثنين، ولكني أعتقد أن الدنيا بخير، وأرجو ألا يمر زمن طويل حتى يدخل ملك الأسبان قرطبة بجيوشه. حينئذ تكون الدولة دولتنا، وحينئذ ينال كل من بذل معونته وإخلاصه أقصى ما يشاء من جاه ومال. ولكن خبريني أنت يا سيدتي: أتعرفين أحدا يعمل إلى جانبنا؟
فرأت نائلة أن تخترع له أسماء لا وجود لأعيانها، عله ينزلق إلى ذكر عائشة بنت غالب. فترددت كالمتمنعة ثم قالت: أعرف عاتكة القوطية، ونزهة الغرناطية، وسلمى بنت حجاج.
فهز أسبيوتو رأسه ليدل على أنه لا يعرفهن وقال: أتعرفين عائشة بنت غالب؟ فقالت في هدوء: أعرفها. فقال أسبيوتو في شيء من الزهو: إني أعمل معها. - ما خطة عملكما؟ - تكتب الرسائل وبها كثير من أخبار الدولة وأسرار الجيش والحصون، لأنها على اتصال وثيق بالوزراء وكبار المملكة، فأمضي بها إلى الشمال وأضعها في يد ملك الأسبان. وسأسافر بعد يومين لحمل رسالة جديدة. - حسن جدا. وإذا تستطيع أن تأخذ رسالتي هذه معك بعد أن أهذبها وأزيد عليها أخبارا. - سأمر عليك يوم الثلاثاء في الصباح. - عظيم. ولكن اسمع. يجب ألا تبوح بكلمة مما جرى اليوم لعائشة، ولا تذكر لها اسمي، لأن أول قواعد الجاسوسية؛ التي نقضناها اليوم، أن يكتم الجاسوس سر نفسه حتى عن أمثاله الحاطبين
2
Página desconocida