ولكنها دفنت وجهها بين كفيها، وأخذتها نوبة بكاء ونشيج، يقطع نياط القلوب، فانكبت فلورندا على رأسها تقبله في حنان وتحاول أن تنزع إحدى كفيها عن وجهها في دعابة مصنوعة، واستهانة بالأمر متكلفة، وشرعت تقول: إن ابنتي أشجع من أن يدفعها إلى البكاء خطب وإن جل، إنها مصاص الدم الأسباني الذي لا يعرف الخوف، ولا يأبه للكوارث، إنني أزهى بك يا عائشة على جميع بنات قرطبة الضعيفات النفوس المنحلات العزائم، فيك عزم جدك جارسيا، وفيك مضاؤه وفتكه بالأعداء. لقد رأيته في أشد نوازله فما رأيت دمعة تطفر من عينيه. وكان يقول حينما يراك وأنت تضربين الصبيان، وتأخذين بشعر نواصيهم: «هذه ابنتي يا فلورندا حقا، وقد كنت أخاف أن يطغى عليها الدم العربي» ثم يطرق مبتسما ويقول في صوت خافت: «إنها ستنتقم لنا من العرب». فماذا جرى يا عائشة؟ أضاعت فيك فراسة جدك أم عاودك عرق من لين أبيك ورخاوة طبعه؟ وماذا في هذه الورقة؟ ثم جذبتها بعيدا في إحدى زوايا الغرفة وهمست في أذنها قائلة: - أبالورقة نذير بخطر؟ هل قبض على أسبيوتو؟ لقد كان هنا بالأمس، وكان مرحا ضحوكا، فما الذي جرى؟ احذري يا فتاتي! وإياك أن تدفعك الغريزة إلى ما لا يدفع من الشر! واعلمي أن من الناس من يتصنع النوم وهو ليس بنائم، ويتغابى وهو ليس بغبي، والصيد قد يفجأ من حيث لا يرتقب، والسفينة قد تدهم بالعاصفة وهي في ريح سجسج
8
رخاء. ماذا في هذه الورقة يا فتاتي؟ إن كانت من أسبيوتو فمزقيها. فرفعت عائشة كفيها عن وجهها، والكلمات تتعثر في فيها وقالت: إنها من ابن زيدون. - هل قال فيها إنه مات بعد كتابتها؟ - لو مات لكان الخطب أهون وأيسر. - ماذا قال في رسالته؟ - لطمني لطمة سأترنح لها إلى الأبد، وداس على حبي بقدميه، ومرغ كبريائي في التراب، وركل برجله عاطفة كنت أعتز بها، وصورني سائلة مستجدية ممزقة الثياب تمد يدها إليه للإحسان فيبصق على اليد الممتدة إليه ويوسعها زجرا ونهرا. - كانت عقيدتي فيه دائما أنه شاب ماجن دوار، كالطائر الذي يغرد في كل روض، ويأكل من كل ثمر. دعيه يا عائشة فإن ألف شاب في قرطبة يرى من أكبر نعم الحياة أن يكون لك زوجا.
فعادت نوبة القهقهة إلى عائشة وصاحت في غضب: أدع ذلك العربي الغادر؟ إنه آذنني بحرب، وسأريه كيف تكون الحروب! سأريه أن في دمي عزيمة الأسبان؛ إنه يتبجح بشعره، ويزهي بأدبه، ويطمح إلى أسمى المناصب، ولكني سأفضح هذا الخبيث وأكشف لرجال الدولة مكنون أسراره، حتى يسد في وجهه كل باب، ويطفأ في صدره كل أمل، ويصبح شبحا هزيلا منبوذا، تهارشه
9
الصبيان، ويرميه كل رجل بحجر. سأريه أن المرأة - حينما تريد - تستطيع أن تعصف بأكبر رجل إذا نفذت إلى أسراره. إن لكل إنسان في هذه الدنيا خزانة مخبوءة تجمع أخبار ماضيه وما فيه من مخاز وفضائح، وهو حريص على هذه الخزانة حفي بألا يرى ما فيها شعاع للشمس، يحكم إقفالها كل يوم، ثم يدفنها تحت أطباق الثرى، لا تعرف عنها زوجه شيئا، ولا يسري منها إلى أولاده أو أخصائه خبر. وهو رجل في أعين الناس عظيم المكانة، مرموق المنزلة، لا ترقى الشبهة إلى خلائقه، ولا يمس الدنس لد ذيلا. ولكن اختفاء بعض هذه الخزائن لا يدوم، فقد ينسى الغر مفتاحها في جيب ثوب يخلعه، أو يذهل عنه بحادث مزعج فيتركه في ثقبه، أو يفقده في الطريق فيعثر عليه لص ماهر يسعى للبحث عما في هذه الخزائن، أو تزول الكلفة بينه وبين صديق فيفتح له بابها، ويقذف أمامه بما فيها من أوساخ وأقذار. وهكذا فعل معي هذا الأحمق ابن زيدون يا أماه، فإن مفتاح خزانته في يدي، وسر واحد من أسرارها كاف لأن يهدم حياته، ويقضي على ما بها من آمال. - سحقا للخائن! إنه سيلقى عقابه جزاء وفاقا. والمثل الأسباني يقول: إذا قذفت الزجاج بحجر قذفك بشظاياه.
أما غالية فقد جعلت بين قلبها ووجهها حجابا لا ينفذ منه شعاع، والنساء أقدر خلق الله على إسدال هذا الحجاب. ثم أمرت عينيها أن تصبا شيئا من الدمع لإكمال صورة الحزن والأسف وقالت: إن هذا المأفون لم يكن شيئا ولم تسمع به قرطبة إلا بعد أن اتصل بسيدتي، فرفعت قدره، وأعلت مكانته، وأرغمت الناس على التحدث بأدبه والتغني بشعره. وإني أعرف من مباذل هذا المائق ما لا تستطيع غسله أمواج البحار.
فنظرت إليها عائشة نظرة شكر وارتياح وقالت: لا يا غالية. دعيه لي. فإنه لعبة صغيرة سأروح بها عن نفسي، فإذا فرغت منها فرجت همومي بتحطيمها، وسيعلم الوغد أن حفيدة جارسيا إذا عزمت صممت، وإذا رمت أصمت.
الفصل الخامس
استيقظ ابن زيدون من نومه بعد أن قضى أول ليلة في وليمة نائلة في لهو وطرب، وبعد أن قضى آخره في هم ونصب وأرق. فإن الماضي الدميم لا يزور أصحابه إلا إذا أووا إلى مضاجعهم، وانفردوا بأنفسهم، وبعدوا عن ضجيج الحياة وصخبها. فما كاد رأس ابن زيدون يمس الوسادة، حتى أطلت عليه الذكريات برءوسها بشعة منكرة، كأنها رءوس الشياطين. وهذه الذكريات تظهر أول الأمر في هيئة أشعة ملونة مبهمة، ثم تتجمع وتتناسق لتبرز صورة واضحة لشخص أو لحادثة، لا يجد المرء عنها محيدا، ولا دونها منصرفا. وكلما زاحمها بالتفكير في شيء يسره ويشرح صدره، ويجذب إليه النوم الهادئ الهنيء، طردته في عنف وجبرية، وأخذت مكانه شامتة ساخرة. وكلما حاول أن يجعل بينه وبين التفكير المطلق سدا، وأن يحملق في الظلام كما يحملق المعتوه، أبى الدماغ أن يبقى فارغا، وأسرعت إليه الصورة كأول ما كانت قوة وظهورا.. وقد يرى أن يفر من الوحدة بالقراءة، فيوقد المصباح ويختار أجلب كتاب في خزانته للتسلية والتفريج، ويطل على السطور، فإذا هي تتراقص أمامه مخرجة له لسانها في تحد وعبث، وإذا الصورة السمجة تزاحم الكلمات وتحجب عنه السطور.
Página desconocida