بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله خالق الأشياء بلا أصول أزلية، وكافي مهمات البرايا بالقدرة الصمدية، الذي دل بذاته على ذاته، وتنزه عن مشابهة مخلوقاته، تعالى جده، وتعاظم مجده، ونبتهل إليه في أن نصلي أجم الصلوات، ونسلم أتم التسليمات على صفوته من بريته وخيرته من خليقته، سيد الكل في الكل، المبشر برسالته أعاظم الرسل، محمد، المبعوث لإبانة أحق السبل، وعترته الأنجبين، وحامته الأقربين الذين هم روقة الأصفياء، وسادة الأوصياء إلى يوم طي السماء.
وبعد؛ فهذه تعليقات دقيقة، وتدقيقات أنيقة، متعلقة بإيضاح المقصود، وتبيين المرام، وإبداء احتمالات الأحاديث المروية عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في نبذ من أصول كتاب الكافي الذي لم يؤلف مثله في الإسلام، علقها عليه باقتراح جم من المتعلمين سيد الفضلاء، وأستاذ العلماء، ذو القريحة الملكوتية، والفطرة البرهانية، البارع الفطن، والفائق اللسن، المرتقي في المعقولات إلى الدرجة العليا، والفائز في المنقولات بالقدح المعلى، لا زال - كاسمه السامي - رفيعا، وما برح ظله ظليلا، معرضا عن الإسهاب والإطناب، مقتصرا على ما يحتاج إليه في كل باب، كما هو سجية أولي الألباب، وإلى الله المرجع والمآب. (2)
Página 29
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله،
Página 31
المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في جميع خلقه؛ علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كل منظر؛ الذي لا بدء لأوليته، ولا غاية لأزليته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه.
اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداء. خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لإظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته.
<div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (علا فاستعلى).
الاستعلاء استفعال من العلو بمعنى فعل. وعن عبد القاهر أن المعنى في لفظ استفعل يتغير قليلا، وأن " استقر " و" استعلى " أقوى من " قر " و" علا "؛ فالتفريع في قوله: " فاستعلى " على تقدير المغايرة يصح على كونهما متعديين أو لازمين، وعلى كونه بمعنى فعل بلا مغايرة يبنى على كون أحدهما متعديا والآخر لازما، والأخير أولى باللزوم.
قوله: (تفرد بالملكوت).
الملكوت فعلوت من الملك كالرغبوت من الرغبة، والرهبوت من الرهبة، والرحموت من الرحمة، والجبروت من الجبر. وعالم الملكوت يطلق على المجردات والمفارقات، كما أن عالم الملك يطلق على الجسمانيات والمقارنات.
قوله: (اخترع الأشياء).
الاختراع والابتداع متقاربان في المعنى. وكثر استعمال الاختراع في الإيجاد لا بالأخذ من شيء يماثل الموجد (1) ويشابهه، والابتداع في الإيجاد لا لمادة وعلة، فقوله: (لا من شيء) أي لا بالأخذ من شيء (فيبطل الاختراع، ولا لعلة) أي لمادة، فيبطل الابتداع.</div>
Página 32
لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات.
احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال، ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته، لا يبلغه حد وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العليم، احتج على خلقه برسله، وأوضح الأمور بدلائله، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروه، ويوحدوه بالإلهية بعد ما أضدوه.
أحمده حمدا يشفي النفوس، ويبلغ رضاه، ويؤدي شكر ما وصل إلينا، من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (لا تضبطه العقول).
أي تبلغ (1) العقول إدراكه بنحو قاصر عن الإحاطة به وضبطه، فهو غير محدود و غير منضبط الحقيقة، ولكنه مصدق بوجوده منفيا عنه جميع ما يحيط به العقول والأفهام.
(ولا تبلغه الأوهام) حيث يتعالى عن أن يحس به (ولا يدركه الأبصار) حيث لا صورة له ولا مثال، ولا يتشكل بشكل، ولا يحاط بحد، ولا يتقدر بمقدار.
قوله: (احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور).
المحجوب والمستور إما بمعنى الحاجب والساتر والحجاب حاجب والستر ساتر. وإما بمعنى المفعول؛ فإن الحجاب والستر إذا لم يكن مستور الباطن ومحجوبه، (2) لم يكن حاجبا ساترا.</div>
Página 33
ولا ولدا، وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبد انتجبه، ورسول ابتعثه، على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم، وعمى عن الحق، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين.
وأنزل إليه الكتاب، فيه البيان والتبيان (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) قد بينه للناس ونهجه، بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها، وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة، ومعالم تدعو إلى هداه.
فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به، وصدع بما أمر، وأدى ما حمل من أثقال النبوة، وصبر لربه، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، ودعاهم إلى النجاة، وحثهم على الذكر، ودلهم على سبيل الهدى من بعده، بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها، ومنائر رفع لهم أعلامها، لكي لا يضلوا من بعده، وكان بهم رؤوفا رحيما.
فلما انقضت مدته، واستكملت أيامه، توفاه الله وقبضه إليه، وهو عند الله مرضي عمله، وافر حظه، عظيم خطره، فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله، ووصيه أمير المؤمنين وإمام المتقين صلوات الله عليه، صاحبين مؤتلفين، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق، ينطق الإمام عن الله في الكتاب بما أوجب الله فيه على العباد، من طاعته، وطاعة الإمام وولايته، وواجب حقه، الذي أراد من استكمال دينه، وإظهار أمره، والاحتجاج بحججه، والاستضاءة بنوره، في معادن أهل صفوته ومصطفي أهل خيرته.
فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل مناهجه؛ وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، وجعلهم مسالك لمعرفته، ومعالم لدينه، وحجابا بينه وبين خلقه؛ والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره.
<div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (ومعالم تدعو إلى هداه).
الهاء في " هداه " إما ضمير راجع إليه سبحانه (1) أضيف إليه الهدى . وإما زائدة في الوقف.</div>
Página 34
كلما مضى منهم إمام، نصب لخلقه من عقبه إماما بينا، وهاديا نيرا، وإماما قيما، يهدون بالحقوبه يعدلون. حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد.
جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام. وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم، والرد إليهم فيما جهل، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون، ومنعهم جحد ما لا يعلمون؛ لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه، من ملمات الظلم، ومغشيات البهم. وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أما بعد، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (أن يأزر كله).
الأزر - بتقدم (1) المنقوطة على غيرها - جاء بمعنى القوة، وبمعنى الضعف، و هاهنا (2) بمعنى الضعف.
ويحتمل أن يكون " يأرز " بتقدم (3) غير المنقوطة عليها، وسيجئ في باب الغيبة:
" فيأرز العلم كما يأرز الحية في جحرها ". (4) وقال الجوهري في معنى " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما يأرز الحية إلى جحرها " (5): أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. (6)</div>
Página 35
وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا العلم وأهله.
وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة، والتدين بغير علم، إذا كانوا داخلين في الدين، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان، والنشوء عليه، والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها؟
فاعلم يا أخي - رحمك الله - أن الله - تبارك وتعالى - خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي، وجعلهم جل ذكره صنفين:
صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة. فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر؛ إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم، وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم. فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير، والرجوع إلى قول أهل الدهر؛ فوجب في عدل الله - عز وجل - وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي بالأمر والنهي، لئلا يكونوا سدى مهملين؛ وليعظموه ويوحدوه، ويقروا له بالربوبية، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم؛ إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة، وحججه نيرة واضحة، وأعلامه لائحة تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية؛ لما فيها من آثار صنعه، وعجائب تدبيره، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه؛ لأن الحكيم لا يبيح الجهل به، والإنكار لدينه، فقال جل ثناؤه: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) وقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه)، فكانوا محصورين بالأمر والنهي، مأمورين بقول الحق، غير مرخص لهم في المقام على الجهل، أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) وقال: (فسلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل، لما أمرهم بالسؤال، ولم يكن
Página 36
يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب، وكانوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم، ومنزلة أهل الضرر والزمانة، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين، فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم، وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة، كامل الآلة من مؤدب ودليل ومشير، وآمر وناه، وأدب وتعليم، وسؤال ومسألة.
فأحق ما اقتبسه العاقل، والتمسه المتدبر الفطن، وسعى له الموفق المصيب، العلم بالدين، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده، وشرائعه وأحكامه، وأمره ونهيه، وزواجره وآدابه؛ إذ كانت الحجة ثابتة، والتكليف لازما، والعمر يسيرا، والتسويف غير مقبول. والشرط من الله - جل ذكره - فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه، مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه؛ لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لا يدري ما يؤدي، ولا يدري إلى من يؤدي، وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى، ولا مصدقا؛ لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة؛ لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عز وجل: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولو لا العلم بالشهادة، لم تكن الشهادة مقبولة.
والأمر في الشاك - المؤدي بغير علم وبصيرة - إلى الله جل ذكره، إن شاء تطول عليه فقبل عمله، وإن شاء رد عليه؛ لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين؛ كي لا يكونوا ممن وصفه الله، فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) (1) أي على وجه واحد كأن يعبده على السراء لا الضراء، أو على شك، أو على غير طمأنينة.
والحاصل: أنه لا يدخل في الدين متمكنا مستقرا.</div>
Página 37
الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) لأنه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين.
وقد قال العالم (عليه السلام): " من دخل في الإيمان بعلم، ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم، خرج منه كما دخل فيه ".
وقال (عليه السلام): " من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله، زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال، ردته الرجال ".
وقال (عليه السلام): " من لم يعرف أمرنا من القرآن، لم يتنكب الفتن ".
ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة، التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا، سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة، إن شاء الله تبارك وتعالى، أتم إيمانه، وإن شاء، سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء، مال معه، وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره، قبله، وقد قال العالم (عليه السلام): " إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة، فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية، فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قوما إيمانا، فإن شاء تممه لهم، وإن شاء سلبهم إياه " قال: " وفيهم جرى قوله:
(فمستقر ومستودع) ".
وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها، وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها.
وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار
Página 38
الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدى فرض الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله).
وقلت: لو كان ذلك، رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله تعالى بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا، ويقبل بهم إلى مراشدهم.
فاعلم يا أخي - أرشدك الله - أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه، إلا على ما أطلقه العالم (عليه السلام) بقوله: " اعرضوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه ".
وقوله (عليه السلام): " دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم ".
وقوله (عليه السلام): " خذوا بالمجمع عليه؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه ".
ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام): " بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم ".
<div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (مما اختلف (1) الرواية فيه).
المراد بالروايات المختلفة، التي (2) لا تحتمل الحمل على معنى يرتفع به الاختلاف بملاحظتها جميعها وكون بعضها قرينة على المراد من البعض، لا التي يتراءا فيه (3) الاختلاف في بادئ الرأي.
وطريق العمل في المختلفات الحقيقية (4) كما ذكره - بعد شهرتها واعتبارها - العرض على كتاب الله، والأخذ بموافقه دون مخالفه، ثم الأخذ بمخالف القوم وحمل الموافق على التقية، ثم الأخذ من باب التسليم بأيما تيسر.</div>
Página 39
وقد يسر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت، فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة؛ إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه، وعمل بما فيه في دهرنا هذا، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا؛ إذ الرب - جل وعز - واحد، والرسول محمد خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وآله - واحد، والشريعة واحدة، وحلال محمد حلال، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ووسعنا قليلا كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه؛ لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها.
وأرجو أن يسهل الله - جل وعز - إمضاء ما قدمنا من النية، إن تأخر الأجل صنفنا كتابا أوسع وأكمل منه، نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى، وبه الحول والقوة، وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق. والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين الأخيار.
وأول ما أبتدئ به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل وفضائل العلم، وارتفاع درجة أهله، وعلو قدرهم، ونقص الجهل، وخساسة أهله، وسقوط منزلتهم؛ إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار، وبه يحتج، وله الثواب، وعليه العقاب، والله الموفق.
Página 40
كتاب العقل والجهل كتاب العقل والجهل <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (كتاب العقل والجهل).
العقل يطلق على حالة في النفس، داعية إلى اختيار الخير والنافع، بها يدرك الخير والشر، ويميز بينهما، ويتمكن من معرفة أسباب المسببات وما ينفع فيها وما يضر، وبها يقوى على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية ودفع الوساوس الشيطانية.
ويقابله الجهل، ويكون لفقد (1) أحد الأمور، ولفقد (2) أكثرها، ولفقد (3) جميعها.
وقد يطلق العقل ويراد به قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما والتمكن من معرفة أسباب الأمور ذوات الأسباب وما يؤدي إليها وما يمنع منها. والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
والعقل بالمعنى الأول " ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ". ولعل الأول هو الكامل من الثاني، فتبادر (4) عند الإطلاق، وشاع استعماله فيه.
وفي الحديث الأول في (5) هذا الباب استعمل في الثاني وأشير (6) إلى أن كماله</div>
Página 41
<div>____________________
<div class="explanation"> لا يكون إلا فيمن أحب، وفي الحديث الثاني والثالث استعمل في الكامل يعني المعنى الأول، وفي بعض الأحاديث التالية لها استعمل في الأول، وفي بعضها في الثاني، يعرف بالتدبر.
وقد يطلق العقل على أول مخلوق من الروحانيين، كما نطق به الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، ووافقتها كلمة الكملة من الحكماء المحققين.
فإن صح القول بثبوته للنفس - على ما قاله المحققون من أن نسبته إلى النفس كنسبة النفس إلى البدن، وقالوا للنفس: إنها صورة البدن، وأن " الناطق " الذي هو فصل الإنسان، وصورته التي هي النفس مختلفان باعتبار اللا بشرطية وشرط (1) اللائية، كما أن الحيوان الذي هو الجنس، والبدن الذي هو المادة مختلفان بالاعتبارين المذكورين، وإذ لم يبالوا بإطلاق التوصيف مع الاختلاف بالمفارقة والمقارنة بين النفس والبدن لمجرد (2) التعلق الخاص بينهما، فكيف مع الاتفاق في التجرد الذاتي كما في النفس والعقل - فلا يستبعد (3) حمل العقل في الأحاديث الدالة على اتصاف النفس به وكونه حالة لها على ذلك الروحاني المخلوق أولا. وكثير من أحاديث هذا الباب يؤيد ذلك ويقويه، ولا يبعد أن يقال: إن للنفس بارتباطها بالعقل المجرد الذي خلقه الله أولا قبل خلق النفس إشراقا من (4) ذلك العقل، فينتسب إلى النفس باعتبار إشراقه عليها، وإن كان قد يطلق العقل على حالة النفس باعتبار ذلك الإشراق ويتبع ذلك الإشراق حصول العلم والمعرفة للنفس.
وقد يفرق بين العلم والمعرفة (5) بتخصيص المعرفة بإدراك الشيء بآثاره، أو بإدراك الشيء إدراكا يتوصل إليه بتفكر وتدبر، وإطلاق العلم على إدراك الشيء</div>
Página 42
1. أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا منهم:
محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " لما خلق الله العقل استنطقه، <div>____________________
<div class="explanation"> بذاته ويشمل ما يتوصل إليه بتفكر وغيره.
ولو قيل: المعرفة إدراك صفات الشيء وآثاره إدراكا لو وصل إليه أدرك أنه هو لكونه (1) موصوفا بتلك الصفات، فإدراك صفات الشيء وآثاره على هذا النحو معرفة لذلك الشيء، والعلم بالشيء قد لا يكون بمعرفة صفاته، لكن يعتبر في العلم الإحاطة بالمعلوم وحصوله للعالم، ولا يعتبر في المعرفة، ولذلك يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمته، ويقال: علم الله، ولا يقال: عرف الله، لكان أوجه.
ويفارقان العقل بأن العقل إدراك كلي بإشراق من المبادئ، غير مختص بماهية معلوم خاص، بل متعلق بكثرة في وحدة يتفرع عليه (2) تفصيلها وتجزيتها إلى معلومات خاصة، فإذا أدرك مهية بخصوصها، كان إدراكها علما بها، فالعقل يتبعه العلم والمعرفة، وقد يوجد الناقص منهما مفارقا للعقل.
ويحصل أيضا عن العقل المشرق على النفس الذكاء والفهم والفطنة.
أما الذكاء، فسرعة القطع بالحق - ويقال له: الذهن - فيما وقع فيه النزاع والخلاف.
وأما الفطنة، فسرعة إدراك المشكلات واستنباط الرموز والدقائق.
وأما الفهم، فإدراك الأمور الجزئية والتميز بين المتميزات منها.
والفهم من مقدمات العقل، والعقل لا يفارقه وهو يفارق العقل كما في النكرة. (3) والعقل قد يفارق الذكاء والفطنة، وإن كان الكامل منه لا يفارقهما.</div>
Página 43
ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب.
<div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (ثم قال له: أقبل فأقبل).
إقبال العقل عبارة عن توجهه إلى المبدأ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى المقارنات.
ويصح إطلاقهما (1) في أول خلق من الروحانيين، وفي القوة النفسانية الداعية إلى اختيار الخير والنافع، وفي قوة إدراك الخير والشر والتميز بينهما.
وقوله: (ولا أكملتك إلا فيمن أحب) يلائم الأخيرين، وإن كان يصح في الأول باعتبار الارتباط والإشراق على النفس بعناية، فيكون المراد بإكمال ذلك العقل فيمن أحب إكمال ارتباطه وإشراقه.
وقوله: (إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب) يناسب الأخير؛ فإنه مناط التكليف.
ولما كان سببا لصحة تعلق التكليف بالنفس وكان النفس مكلفا، لكونها عاقلا، فكأنه مكلف، قال: " إياك آمر... " وإن كان يصح في الثاني (2) بعناية (3)، وفي الأول (4) بزيادتها.</div>
Página 44
2. علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن مفضل بن صالح، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي (عليه السلام) قال: " هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام) فقال: يا آدم، إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث، فاخترها ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل، وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: إني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما، وعرج ".
3. أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما العقل؟ قال: " ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان " <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (علي بن محمد) هو علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلان، وهو من الموثقين.
قوله: (إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث (1)).
الظاهر أن آدم (عليه السلام) حين هبوط جبرئيل (عليه السلام) عليه كان ذا عقل وحياء ودين، والأمر باختيار واحدة من ثلاث لا ينافي حصولها. وقول جبرئيل (عليه السلام) للحياء والدين بعد اختيار العقل: " انصرفا " لإظهار ملازمتهما للعقل بقولهما: " إنا أمرنا أن نكون مع العقل ".
ولعل الغرض من ذلك أن يتنبه آدم (عليه السلام ) بعظم نعمة العقل، ويشكر الله على إنعامه.
قوله: (قال: ما عبد به الرحمن واكتسب (2) به الجنان).</div>
Página 45
قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: " تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل ".
4. محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله ".
5. وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، قال: قلت لأبي <div>____________________
<div class="explanation"> الظاهر أنه تفسير للعقل بمعنى القوة الداعية إلى اختيار الخير والنافع، أو الارتباط (1) بالعقل المجرد المشرق عليه.
ويحتمل أن يكون المراد بالعقل المسؤول عنه هاهنا (2) ما يعد به المرء عاقلا عرفا، وهو قوة التمييز بين الباطل والحق (3)، والضار والنافع التي لا تكون منغمرة في جنود الجهل، فعند غلبة جنوده لا يسمى الفطن المميز عاقلا؛ حيث لا يعمل بمقتضى التميز والفطانة، ويستعمل في مشتهيات جنود الجهل.
وقوله (عليه السلام): (تلك النكراء) يعني الدهاء والفطنة، وهي جودة الرأي وحسن الفهم، وإذا استعمل في مشتهيات جنود الجهل يقال له: الشيطنة. ونبه (عليه السلام) عليه بقوله: " تلك الشيطنة " بعد قوله: " تلك النكراء ".
قوله: (صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله).
لأن الصديق يحب للصديق الخير والنافع، ويوصله إليهما، والعدو يريد للعدو الشر والضار، ويوصله إليهما والموصل إلى الخير والنافع هو العقل، والموصل إلى الشر والضار هو الجهل، وهما مستقلان (4) بالإيصالين، ولا يستقل بهما غيرهما، إنما من الغير المعاونة لا غير.</div>
Página 46
الحسن (عليه السلام): إن عندنا قوما لهم محبة، وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول، فقال (عليه السلام): " ليس أولئك ممن عاتب الله تعالى، إنما قال الله: (فاعتبروا يا أولى الأبصار) ".
6. أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " من كان عاقلا كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة ".
7. عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا ".
8. علي بن محمد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن محمد بن سليمان <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (لهم محبة وليس (1) لهم تلك العزيمة).
أي يحبون الأئمة وأهل البيت (عليهم السلام) وليست لهم قوة عقلية توجب الاعتقاد الجازم بالإمامة اعتقادا ناشئا من الحجة والبرهان حتى يقولوا بهذا القول، أي القول بالإمامة كما يقول (2) الإمامية عن بينة ودليل.
وقوله: (فقال ليس أولئك) يعني القاصرين العاجزين عن تحقيق الحق مكلفين بما عجزوا عنه، إنما قال الله تعالى: (فاعتبروا يا أولى الأبصار). (3) قوله: (إنما يداق الله العباد).
التداق: التفاعل من الدقة. والمداقة أن تداق صاحبك الحساب.
قوله: (علي بن محمد بن عبد الله) هو علي بن محمد بن عبد الله بن أذينة من مشايخ الكليني.</div>
Página 47
الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله كذا؟
فقال (عليه السلام): " كيف عقله؟ " قلت: لا أدري، فقال: " إن الثواب على قدر العقل، إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء، نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإن ملكا من الملائكة مر به، فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك، فأوحى الله تعالى إليه: أن أصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح، قال له الملك: إن مكانك لنزه، وما يصلح إلا للعبادة، فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع، فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى الله تعالى إلى الملك: إنما أثيبه على قدر عقله ".
9. علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام):
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا بلغكم عن رجل حسن حال، فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازى بعقله ".
10. محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال:
ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ " فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟
فقال (عليه السلام): " سله: هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فإنه يقول لك: من عمل الشيطان ".
11. عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، رفعه، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (وهو يطيع الشيطان) ويفعل ما يأمره به، فسأله السائل عن إبانة أنه يطيع بفعله الشيطان، فبينه (عليه السلام) بأنه لو سئل عن مستنده لم يكن له بد من أن يسنده إلى الشيطان؛ حيث لا شبهة في أنه لا مستند له في الشرع ولا في العقل.</div>
Página 48
الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل؛ ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب الذين قال الله تعالى:
(وما يتذكر إلا أولوا الألباب) ".
12. أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا، رفعه، عن هشام بن الحكم، قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): " يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) ".
يا هشام، إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: (وإلهكم إله وحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
يا هشام، قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: (وسخر لكم الليل <div>____________________
<div class="explanation"> قوله: (ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل) أي بعقله، فإن للعقل فضلا؛ لأنه به يحصل المعرفة واختيار الخير، ويتفرع عليهما الخشية والتذلل والإطاعة والانقياد والإتيان بالحسن الجميل، وإنما كمال العبادة بحسن التذكر والتذلل والخشية، وقال الله تعالى: (إنما يتذكر أولوا الألباب) (1) وقال - عز من قائل -: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (2).</div>
Página 49