Cosecha filosófica del siglo XX y otros estudios filosóficos
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Géneros
مقدمة
يتأرجح الفكر العربي هذه الأيام بين تيارين فكريين متعارضين، يهيب بنا أحدهما أن نعود إلى الماضي، حيث الجذور والأصول والبدايات الأولى بكل ما تحمله من قيم تراثية كان لها نتائجها المثمرة في الزمن الماضي متمثلا في حضارة شعت أضواؤها حقبة طويلة من الزمان. ويدعونا التيار الآخر لأن ننشد المستقبل ونتطلع إليه، وخاصة في ظل التغيرات العالمية المتلاحقة والتحولات الشديدة الأهمية في تاريخ البشرية، ويتحمس كلا التيارين تحمسا شديدا لوجهة نظره وحججه التي يسوقها، ولكن أين واقعنا الحاضر بين هذين التيارين المتعارضين؟ بمعنى آخر ما هو الموقف من الحاضر كنقطة انطلاق ومنعطف رئيسي إما للارتداد للخلف أو للتطلع إلى الأمام؟ وبمعنى ثالث أكثر وضوحا ما هو الدور الذي يقوم به الوعي التاريخي بالحاضر، والذي يتحدد وفقا له موقفنا من الماضي والمستقبل على السواء؟
يحاول هذا البحث تحسس الطريق للإجابة على هذه التساؤلات التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية هي الماضي والمستقبل والوعي التاريخي بهما، ولكن المحور الغائب الحاضر دوما في هذا البحث هو الزمن الحاضر الذي هو نقطة الاتصال بين البعدين الآخرين للزمان، وهما الماضي والمستقبل. ولذلك لا بد أن تكون البداية هي مناقشة الحجة التي يستند إليها أصحاب التيار الأول في دعوته للعودة إلى الجذور، أي العودة للعصور الذهبية الأولى لاستعادة لحظات زمنية بعينها، ومحاولة إحيائها في الزمن الحاضر، ومدى ما في هذه الحجة من وعي تاريخي بالماضي من ناحية، وبالحاضر من ناحية أخرى، وطرح الأسباب التاريخية الكامنة وراء هذا التفكير الذي يجتاح عالمنا العربي هذه الأيام. ثم يعرض البحث لكيفية التوجه إلى المستقبل بوصفه الإمكانية الوحيدة للتغير الإيجابي لأي مجتمع من المجتمعات عندما يعي الحدود الفاصلة بين أبعاد الزمان المختلفة من ماض وحاضر ومستقبل، أي عندما يعي جدلية الزمان والتاريخ، وعندما يفهم التاريخ من خلال فكرته عن الزمان، وكيف تنطوي رؤيته للعالم على رؤيته للزمان، ومن ثم ينتهي البحث إلى إشكالية إغفال كلا التيارين السابقين للزمن الحاضر عندما قهره أصحاب التيار الأول لحساب الزمن الماضي، وعندما تجاهله أصحاب التيار الثاني لحساب المستقبل. ويختتم البحث بعرض نموذج للوعي التاريخي بزمن الماضي والمستقبل انطلاقا من البعد الغائب في التيارين السابقين ألا وهو الزمن الحاضر، متمثلا هذا النموذج في عصر النهضة الأوروبية. (1) تحديد المفهوم
بداية لا يمكننا أن نتحدث عن الوعي التاريخي بدون أن نكون رؤية واضحة عن مفهوم الزمان، وما دامت أحداث التاريخ لا تدور إلا في الزمان، فإننا لا نتعرف على الزمان إلا من خلال أحداث التاريخ. والإنسان من بين الكائنات الحية جميعا هو الذي يصنع تاريخه، وهو الكائن الوحيد الذي لديه الوعي بالزمان. وإذا كان من الصحيح أن الكائنات الأخرى لها تاريخ، فإنه من الصحيح أيضا أنها لا تعي زمانها ولا تاريخها الطبيعي، والإنسان وحده هو صاحب التاريخ البشري وصانعه عن جدارة؛ ولذلك فهو القادر على فهم جدل الزمان والتاريخ. وبالرغم من أهمية الزمان في موضوعنا إلا أننا لن نتوقف أمام الزمان كإشكالية ميتافيزيقية وهي اللغز المحير الذي استعصى على كبار الفلاسفة قبل صغارها، فلن نطرح السؤال عن ماهية الزمان - التي تخرج بالبحث عن النطاق المرسوم له - ولن نحاول التعرف على بداياته أو نهاياته، ولن نسعى للبحث عما إذا كان أبديا سرمديا أم أنه حادث مخلوق مع العالم، فهذه قضايا يطول الاسترسال فيها ولا يحسمها التاريخ الطويل للفلسفة ولا نظنه سيحسمها في يوم من الأيام، ولن نتساءل أيضا إن كان وجود الزمان لا ينفصل عن الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية أم أن له وجودا موضوعيا؟ فهذه المشكلة لها جذورها الفلسفية والعلمية التي يشهد عليها تاريخ التفكير الفلسفي من ناحية، وتطور علم الطبيعة أو الفيزياء من ناحية أخرى، وهي المشكلة التي أثيرت على مستويين: (أ)
مستوى التنظير العقلي الفلسفي. (ب)
ومستوى العلم الطبيعي الفيزيائي.
ولن نعرض أيضا للزمان النفسي - على الرغم من أهميته - الذي دارت حوله تأملات وبحوث العديد من فلاسفة القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه زمان الذاتية الفردية، أو زمن التجربة الحية. ولهذا سوف نقتصر على الزمان التاريخي - الذي يتداخل مع الزمان الطبيعي الكمي وزمان الوجدان الكيفي - وهو الزمان الذي تتفاوت سرعته وكثافته وفق ما يمتلئ به من مضمون يشكل التاريخ البشري.
لا بد أيضا من التنويه بأن ما نعنيه بالزمان التاريخي هنا يختلف عن الزمان التاريخي، الذي يهتم بأحداث الماضي المنظمة أو المنظومة في تتابع تاريخي للوقائع؛ أي تقسيم الزمان إلى أحقاب تاريخية من عصور قديمة ووسيطة وحديثة؛ فهذا التحقيب لا يجعل من الزمان زمانا تاريخيا، بل يظل زمانا تأريخيا. وعلى الرغم من أن تعاقب حالات الوعي هو الذي يؤكد تدفق الزمان؛ لأن الوعي «مصنوع على نحو لا يستطيع معه إلا أن يدرك تتابعا للحظات حاضرة، أو بالأحرى نقاطا في المكان والزمان»،
1
إلا أن الزمان ليس هو فحسب الزمان المتتابع في خط واحد، بل هناك أيضا الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته من ناحية الامتلاء بالمضمون، فنجد في الزمان التاريخي عصورا تاريخية متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور والتجدد، كما نجد عصورا شديدة التسطح، تماما كما مر الزمان الكوني بمراحل تطور تأرجحت بين التجانس والتفجر؛ فالزمان كالهيكل العظمي، والبنية الزمنية لا قيمة لها في حد ذاتها، بل تستمد قيمتها مما تحتويه من مضمون؛ ولذلك فبنية الزمان التاريخي لا تسير على وتيرة واحدة؛ لأنه يتغير حسب مضمونه التاريخي، كما أن تقييم الأبنية الزمنية نفسها يتم وفق ما تحمله من مضمون.
Página desconocida