وكانت عقلية الرشيد إذ ذاك أنضج وأوعى من عقلية الغرب، وكانت صناعتهم أدق وأجمل، حتى ليحدثونا أن الغربيين عجبوا عجبا شديدا عند رؤيتهم البوصلة، والساعة الدقاقة، وظنوا من عجبهم أن فيهما شيطانين يحركانهما، ويأتيان بهذه الأعاجيب.
وكان من مقتضى هذه الحضارة التي شاهدناها في القصور والعمارات والأسواق والهدايا أن تصل إلينا آثارها مما يدلنا عليها، ولكن غزوة التتار التي جاءت في آخر الدولة العباسية، وقضت عليها أذهبت آثارها، وأضاعت كنوزها.
الإمبراطور شارلمان يستقبل وفد هارون الرشيد الذي جاءه بالهدايا.
فقد كانت غزوة عنيفة جامحة لم يسبق لها في التاريخ مثيل ... قال السيد أمير علي:
إن هولاكو أصدر عند زحفه على بغداد أمره بنهب المدينة وذبح أهلها، حتى خرج الشيوخ والأطفال والنساء من المنازل حاملين المصاحف على أكفهم وهم يتوسلون ويتضرعون إلى الجنود بشكل يفتت الأكباد، ولكن الغزاة لم يعبأوا باستغاثتهم، ووطئوا أجسامهم بحوافر خيولهم، وهجموا على نساء الأشراف والنبلاء.
أما الكنوز الأدبية والفنية ومخلفات المدنية الإسلامية فقد دمرت تدميرا في خلال بضع ساعات، وطفقت شوارع المدينة تجري فيها الدماء ثلاثة أيام، حتى اصطبغ ماء دجلة بالدم لعدة أميال، وظل التخريب والذبح وانتهاك الحرمات ستة أسابيع، وتقوضت القصور والجوامع إما بالنار أو بالمعاول؛ لأنه كان يغيظهم ما فيها من قبابها الذهبية، وأشعلوا النار في نتائج قرائح العلماء والأدباء، وألقيت الكتب بعضها في النار وبعضها في نهر دجلة.
وهكذا فقدت كنوز خمسة قرون، وفنيت زهرة الأمة فناء تاما ...
عهد الرشيد لولديه
واهتدى الرشيد أخيرا إلى أن يعهد بالخلافة للأمين والمأمون، ويقسم البلاد بينهما، وبعدهما إلى المعتصم، وفاته أن الملك لا يحتمل الاشتراك ... فلا بد أن يتخاصم الشريكان أو الشركاء، ويتغلب أحدهم، وهذا ما كان بعده.
ففي سنة 186 هجرية حج الرشيد، ومعه المرشحان للخلافة الأمين والمأمون وقواده ووزراؤه وقضاته، فبعد أن قضى مناسك الحج كتب كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة أنفسهم فيهما ليزيدوا الكتابة توثيقا؛ أحدهما على محمد الأمين يشترط عليه الوفاء بأن يولي المأمون خراسان وما إليها، ويوصي للمأمون فيه بأموال وضياع وغلات وأدوات الحرب.
Página desconocida