ولم يكن الخليفة العباسي حاكما مدنيا فحسب؛ بل هو أيضا حاكم روحي يحاط بهالة من ضروب الشرف والتوفير والاحترام، فلما مات الهادي بويع الرشيد كما تجري المراسم، فجلس على سرير الملك، وامتلأت الأبهاء على سعتها بكبار رجال الدولة، ومن يسمون عادة أهل الحل والعقد، وبدأت البيعة أولا بالأمراء الذين يتقدمون إلى العرش، ويقرأون صحيفة البيعة، وينفذون الأيمان التي أخذت عليهم من قبل، وبايع بعدهم الوزراء وأولادهم، ثم أصحاب الشرطة.
وبعد أن تم ذلك، انعطف إخوة الخليفة والوزراء والأشراف على شكل دائرة بجانبي العرش، ووقف الحاجب بالباب يأخذ البيعة من الناس، وكتب إلى أمراء الأمصار ليأخذوا البيعة من كبار الرجال في دائرتهم، فلما تم ذلك تمت الصبغة القدسية للرشيد، وتمت له السلطة المدنية والروحية، وهي حالة لا نستطيع أن ندركها في عصرنا اليوم. •••
فمما فعله الرشيد أن سمى بغداد مدينة السلام تشبيها لها بدار السلام، وسمى قصر الخلافة بالحريم تلميحا إلى البيت الحرام، وجلب بعضا من أبناء الأنصار، وسماهم بالأنصار، وجعل بابا من أبواب بغداد قليل الارتفاع، لكي ينحني الداخل منه تشبيها بالسجود احتراما للخليفة ... كما يفعل الداخل إلى الكعبة، وسمى الخيزران أم الخلفاء تشبيها بما سمى به الرسول عائشة أم المؤمنين.
واستكتب العلماء في وضع الأحاديث التي تمجد بيت بني العباس؛ كالذي رواه الطبراني عن ابن عمر كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره، والعباس عن يمينه، فتلاحى العباس ونفر من الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس.
فأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
بيد العباس وبيد علي، وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يقبل من قبل المشرق، وهو صاحب راية المهدي.»
ويظهر أن واضع هذا الحديث ماكر زائد في المكر؛ فإنه جعل روايته ذات وجهين، حتى إذا غلب فريق ادعى أنه هو المراد؛ لأنه لم يعين المشار إليه في كل مرة فأخذه دعاة بني العباس وأولوه لهم؛ لأنهم أصحاب الرايات.
Página desconocida