كان أحمد إذن مترجلا في طريقه إلى المدينة ووراءه الجملان، وكان العمدة راكبا الحمار في طريقه إلى القرية ووراءه فتحي.
وفجأة في بهيم الليل سمع العمدة عيارا ناريا ينفجر من قريب، فانتفض العمدة عن حماره وانتفض الحمار من تحت العمدة، وجرى فتحي إلى الذرة يختبئ بها، وأسرع العمدة يجر الحمار مهرولا إلى أعواد الذرة يرجوها أن تحميه ، ومن قريب سمع العمدة حفيف ثوب وأقدام تقترب، ثم ما لبث صاحب الجلباب والأقدام أن مر قريبا من العمدة وفتحي والحمار، وقد كتم جميعهم أنفاسهم حتى عبرهم المجهول. قد أجابت الذرة رجاء العمدة فحمته من الأعين، وخرج صاحب الجلباب من الذرة إلى الطريق يحمل بندقيته في يده متهيئا لإطلاقها عند أول بادرة، ويتلفت يمنة ويسرة فيراه العمدة من مخبئه، ويراه فتحي ويعرفانه ويخترق الدفراوي الطريق إلى الصحراء، وما هي إلا لحظات حتى تغيبه الصحراء في جوفها، ويصحو العمدة من ذهوله المذعور: فتحي؟ - ن... ن... نع... نع... نعم يا حضرة العمدة. - أين بندقيتك؟ - م... م... معي. - وماذا تفعل بها؟ - إنها ... إنها لا تصلح ... ينطلق منها العيار مرة، وينحبس فيها مرات، خشيت أن أستعملها فينتبه إلينا الدف... الرجل، فيقتلنا يا حضرة العمدة.
كان العمدة قد ألقى سؤاله وسار مخترقا الذرة إلى طريق القرية ساحبا وراءه الحمار، ساعيا خلفهما فتحي يلقي باعتذاره الطويل هذا، ولم يبال العمدة من جواب فتحي شيئا، فهو يعلم أنه هو أيضا كان عند الواقعة لا يملك من الشجاعة ما يأمر به فتحي أن يضرب. سار العمدة يهرول في الذرة لاهث الأنفاس حتى بلغ الطريق، فراح ينظر حواليه، فرأى عن يساره الجملين عائدين طريقهما إلى القرية يحملان القطن، فلم يحفل أمرهما، وراح يجيل النظر مرة أخرى، فرأى منه عن قريب جثة ملقاة، سارع إليها وركع عند وجه صاحبها ثم رفع رأسه إلى فتحي.
استدع الناس يا فتحي ليحملوا جثة أحمد أبي خليل، واطلب إلى عبد الهادي أن يبلغ النيابة، وحذار يا فتحي، حذار أن تخبر أحدا أن الدفراوي هو القاتل، حذار وإلا قتلتك. - وهل تراني أجرؤ على القول يا حضرة العمدة؟ وهل تراني أجرؤ؟! •••
بلغ الدفراوي المغارة وما إن دخلها حتى عاجله الزهار: هيه يا منصور! - تم المطلوب.
فقال الزهار في فرحة غامرة: سبع يا بني والله سبع.
وقطع عليه كمال اندفاعه: اهجع يا زهار أترانا هازلين؟ هل رآك أحد يا منصور؟ - لا. - هل أنت متأكد؟ - كل التأكيد. - فهيا إذن إلى بيت النمرود، هلم يا جما... هلم يا رجال.
وخرجت جماعة الخير من مخبئها، وقصدت إلى بيت النمرود دائرة حول القرية غير متخذة إليها الطريق الزراعي، حتى إذا بلغوا حدود القرية من عند طريق المحطة اخترقوا الذرة إلى بيت النمرود رأسا، وظل الدفراوي ونور والزهار في الذرة، وخرج كمال منها إلى بيت النمرود. طرق الباب طرقة عرفها النمرود الذي كان ينتظرهم هناك، وما لبث الباب أن فتح ودخل كمال، ثم تسلل الثلاثة الآخرون الواحد بعد الآخر.
وأخذ كمال مكانه من الأريكة، وسرعان ما اشتعلت النيران وأديرت الجوزة، ولكن قليلا ما تدور، فقد كان اليوم مليئا بالترقب، يريد كل منهم أن يهجع إلى منزله، فما يلبث كمال أن يقول: سأقوم للنوم، ألا تقومون أنتم أيضا؟ - إي والله لقد وجب النوم ...
وانفضوا عن مجلسهم واتخذ كل منهم وجهته إلى بيته.
Página desconocida