وأقسم الجماعة على المصحف القسم الذي أراده لهم كمال، وما إن أتموه حتى التفت منصور إلى كمال يسأل في لهفة: من هو إذن؟
ولكن كمالا لا يريح ثائره بل هو يقول: اسمعوا أولا ما ينوي أن يفعله لكم، إنه سيشتري لكل منكم حصانا وبندقية ومسدسا، إلا أنه يقول ... - هيه ماذا يقول؟ - يقول إن في هذه البلدة فقراء كثيرين، وهو يريد أن يفرض إتاوة على الأغنياء ويعطي منها للفقراء. - وماذا سنفيد نحن؟ - تفيدون أنكم ستطبقون الأفواه حواليكم، فلا تنطق إلا بحمدكم، وتقومون بأعمالكم في الظهر الأحمر، فلا يشهد عليكم أحد، ثم إنكم لن تعطوا هؤلاء الفقراء إلا ربع أو خمس ما تنالون.
ويقول النمرود: وماذا سننال؟ - ستنالون جنيها عن كل قنطار قطن يخرج من هذه البلدة، وستنالون خمسين قرشا عن كل إردب حب تنتجه الأرض، وستنالون خمسة جنيهات عن كل فدان يباع، تنالونها من البائع؛ لأنه أصبح وفي يده مال، وتنالونها من المشتري؛ لأنه يملك ما يشتري به، وستنالون جنيها في العام عن كل جاموسة أو بقرة لتحفظوها لصاحبها فلا تسرق منه، وهذا جميعه غير ما ستحصلون عليه من الماشية من البلدان الأخرى فتبيعونها أو تردونها بالحلوان، وغير الاستفادة من الطرق الخالية التي لا يحرسها أحد، ألا يكفيكم من هذا جميعه أربعة أخماسه، وتهبون للفقراء خمسه، فيظل القوم حولكم صامتين لا يكشف أحد من أمركم شيئا؟
وقال منصور وقد جف حلقه، وبلغت به الدهشة أقصاها: يا ابن الكلب من صاحبك؟ من صاحبك؟ أشهد أنه رجل وابن رجل، وأشهد أنه سيدي وتاج راسي، من هو حتى أقبل حذاءه وأضع رأسي تحته من هو؟
ورفع كمال الجلباب عن حزام الشيخ عبد الودود، وفك أربطته في تؤدة ثم رماه أمامهم فارغا فذهل القوم، ولكن كمالا لم يبال ذهولهم، بل هو يضع يده في جيب صداره فيخرج حافظة الخواجة يلقيها أمامهم، ثم يضع يده في جيب جلبابه فيخرج حافظة عبد الرحمن فيلقيها أمامهم، كل هذا في بطء شديد، بينما راح الرجال الأربعة يقلبون الأشياء ويتعرفون عليها واحدة واحدة؛ فهذه أوراق عبد الرحمن، وهذه أوراق مكتوبة بغير اللغة العربية فهي للخواجة، وفي ذهول مخدر لا يكاد يبين يتصايح أربعتهم صيحات تهم بالارتفاع، فيمسك بها الذهول والفزع والحشيش. - من؟ أنت؟
ويقول كمال في صوت هادئ حازم لم يسمعه القوم من قبل صادرا عن كمال، ولم يسمعه القوم من بعد صادرا إلا عن كمال: نعم أنا.
10
لم يكن تردد درية حين سألها كمال إن كانت ستذهب إلى البيت بعد زيارتها وليد دهشة من السؤال، وإنما كان وليد حذر في الإجابة؛ فقد كانت تضمر في نفسها زيارة أخرى لم تطلع عليها غير فاطمة، فقد كانت درية تنوي أن تزور بيت الشيخ حسن لترى وقع رفض أبيها.
وفوجئ فتحي بدرية وهي تطلب إليه أن يتقدم إلى بيت الشيخ حسن الذي كانت تعرفه كل المعرفة، والذي طالما قصدت إليه في ستار من الليل، تجلس إلى الست أم صلاح، وقد كانت درية تظهر الحب كل الحب للست أم صلاح، وجعلت من هذا الحب المصطنع ستارا أسدلته على حبها الحقيقي، فكانت ترحب بأم صلاح كلما ألمت بهم في زيارة، وكانت تظهر لأمها شوقها إلى أم صلاح كلما تأخرت هذه عن الزيارة.
وهكذا لم تر بأسا أن تزورها الليلة، فما كان مفروضا أن تعرف بما كان بين الرجلين، وما كان مفروضا أن تقطع أم صلاح فلا تزورها لمجرد أن أباها رفض ابنه، ولكنها مع كل هذا التبرير الذي اصطنعته لنفسها أوعزت لفاطمة أن تكتم خبر هذه الزيارة، وأن تطلب إلى فتحي أيضا أن يكتمها.
Página desconocida