غير أن عزيزة بدأت تخرف وتصرخ صرخاتها المحمومة، ويخف إليها بلدياتها يحادثونها ويصبرونها ويهدهدون عليها وكأنها واعية عاقلة مدركة لما تقول، حين بدأت تفعل هذا بدأ الجمود يذوب، وبدأت ألسنة المتفرجين من أهل العزبة تنطلق وتتحدث مع الغرابوة، وتشارك بكلمة عطف أو بمصمصة شفة، ثم تجر الكلمة كلمات، ويبدأ حديث بين الرجال والرجال والنساء والنساء.
ولكن عزيزة بعد ثلاثة أيام من رقادها بدأت تتشنج، يتخشب جسدها حتى يصبح جامدا ناشفا كالعصا وتعض لسانها حتى تدميه، وكان أهل العزبة حينئذ لا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم أمام منظرها فيسرعون، مثلهم في هذا مثل بلدياتها الترحيلة، ويتعاونون في فتح فمها وتدليك جسدها وتنشيقها بماء البصل.
وأسلم التشنج عزيزة إلى نوبات هلع مفاجئ؛ إذ بدأت تقوم بغتة من نومتها صارخة صاخبة، وتنطلق جارية إلى الخليج القريب وتقذف بنفسها فيه بملابسها، وكأنها تريد إطفاء نار مشتعلة فيها. حينئذ كان يتعاون أهل العزبة مع الترحيلة في إخراجها من الماء وحملها وإرقادها في مكانها تحت الظليلة، وفي تلك المرات كانوا يجلسون إلى جوارها في جماعات مختلطة من الغرابوة وأهل العزبة، جماعات حين تهدأ عزيزة ويطمئنون عليها تمضي تتحدث، ويبدأ الحديث عن عزيزة وحالتها، وينتهي إلى الحديث، كل عن نفسه وأحواله.
وما أسرع ما انتقل التغير في لهجة الحديث عن عزيزة، فبعد أن كان الواحد من أهل العزبة يروي حكايتها للآخر وهو يكاد يتقزز منها ومن حكايتها ومن الغرابوة بشكل عام، أصبحت الحكاية تحكى باختصار وكأنها أصبحت عيبا، وكأن في الإفاضة فيها خدشا لحرمة حرمة وشرف ناس. حتى أولئك الذين كانوا يذهبون بغية التفرج على عزيزة قل عددهم وكادوا ينعدمون.
وحين ازدادت شدة المرض تكاتفت الجهود تبحث لها عن البرشام الأصفر في كل بيت وعزبة، وأعطاها جنيدي قنينة خل بنصف الثمن، وذبحت لها نبوية - عن نفسها وعيالها كما قالت - أرنبة صغيرة وطبختها وحملتها في حلتها إلى أم الترحيلة كي تطعمها إياها. وفعلت هذا بين دهشة أهل العزبة واستكثارهم أن تفعل نبوية الفقيرة المعدمة هذا، ولكنها فعلته بكل شهامة، ولم يقلل من شهامتها أنها حين استعادت الحلة غسلتها بالتراب والطين وشاهدتها سبع مرات قبل أن تعود وتستعملها.
وهكذا، وحول مرقد عزيزة وظليلتها، بدأ اختلاط ما يحدث بين أهل العزبة والترحيلة، كان اختلاطا متحفظا أول الأمر وفي حدود، ولكن أهل العزبة اكتشفوا - من خلاله - أن الترحيلة لهم بلاد هم الآخرون ، ويعرفون مثلهم في الفلاحة ويفلحون، ولهم أيضا بيوت وقرايب وعمات وخالات وبينهم مشاحنات وخلافات، ولهم من الريس شكاوى ومن المأمور والإدارة والتفتيش شكايات.
وهكذا أيضا راح أولاد العزبة يلعبون مع أولاد الترحيلة - عيني عينك - أمام الآباء الذين كانوا لا يمنعونهم من اللعب معهم، ولكنهم فقط يوصونهم ألا يدعوا أولاد الترحيلة يتنفسون في وجوههم؛ إذ من الجائز أن يكون في أنفاسهم «ميكروب».
ورغم أن فكري أفندي - في تلك الأثناء - كان مشغولا مشغولية كبرى على ابنه، مع أنه لم تكن تلك أول مرة يتركهم فيها صفوت ويذهب إلى مصر مدعيا البحث عن عمل في الإجازة، إلا أنه كان فقط يريد أن يطمئن على مكانه؛ إذ إن النقود التي أخذها كان لا يمكن أن تكفيه، وكان لا بد أن يرسل له نقودا أخرى تكفيه.
ولكن على الرغم من مشغوليته الكبرى هذه فقد كان مشغولا أيضا بعزيزة، وهو نفسه لا يدري لماذا منذ أن عثر عليها أصبح يحس وكأنه مسئول عنها، وكأنما كان يبحث ليعثر عليها ويصبح مسئولا عنها، كان في ذهابه إلى الغيط يمر على مكانها، ولا يفعل شيئا أكثر من أن يقف على رأسها ويراها وهي تتمرغ في فراش القش وتغمغم بكلامها غير المفهوم. كان يقف قليلا هكذا ثم يمضي عنها وهو يتصعب، فلم يكن يستطيع أكثر من هذا؛ إذ إن عرضها على طبيب المركز أو إرسالها لمستشفى الحميات مسألة محفوفة بالمخاطر، قد يكتشف أثناءها أنها الوالدة، وبالتالي القاتلة، وتكون الكارثة، كارثة لن تصيبها فقط، ولكنها ستصيبه هو الآخر باعتباره علم بالأمر وتستر عليه ولم يبلغ السلطات. كل ما استطاعه هو أن يأمر الأسطى زكي حلاق التفتيش الذي كان يشغل مركز حلاق الصحة ويزاول الحلاقة وطهور الأطفال ووصف الأدوية لتقوية الباه وإعادة الشباب وعلاج الحمى، يأمره في السر - وكأنما يخاف أن يضبطه الناس في لحظة ضعف وعطف - أن يتولى علاج عزيزة ويحاسبه. ورغم أنه تولى علاجها فعلا، بعمامته البيضاء التي يرتديها فوق طاقيته البيضاء أيضا وذقنه الحليق وشاربه الحليق والناب الذهبي الذي يتلألأ في فمه، رغم أنه تولى علاجها إلا أن حالتها لم تزدد إلا سوءا، حتى بدأت تتكرر نوبات إلقائها لنفسها في الخليج، وحينئذ أمر فكري أفندي الريس عرفة بأن تبقى أم الحسن جارتها معها لحراستها ولا تسرح الغيط وتحتسب يوميتها.
ومسألة أخرى ظلت سرا لم يعلم بأمره مخلوق. فالمودة بين مسيحة أفندي الباشكاتب وفكري أفندي المأمور كانت مفقودة بالمرة، ولم يفعل الخطاب الذي ضبطه مسيحة إلا أن زاد الطين بلة. ومن تلقاء نفسه كان مسيحة أفندي يتحين الفرصة ليمسك على المأمور خطأ ما، ويدبه عريضة ينسخها الشيخ إبراهيم بخط يده ويرسلها باسم مستعار إلى الدائرة في مصر. وقد وجد مسيحة أفندي في احتساب يومية عزيزة وجارتها فرصة مواتية هبطت عليه من أبواب السماء الواسعة. وبعد أن تأكد من أحمد سلطان أنهما مقيدتان فعلا في دفتر اليومية، سهر ليلة بأكملها يدبج عريضة طويلة بهذا المعنى متهما المأمور بأنه يزود في عدد الأنفار ويقتسم الفرق مع المقاول، ويزور في «شاليش» اليومية، وأن الشاهد على ذلك حي وموجود، وما على جناب الخواجة إلا أن يرسل المفتش ليتحقق بنفسه مما ذكر.
Página desconocida