وتراجع فكري أفندي إلى الوراء مذعورا، وبعد ما التقط الريس أنفاسه قال للمأمور: أصلها لا مؤاخذة بتخرف يا سعادة البيه، الحمى ملهلبة نافوخها، خد من ده كتير، طول الليل والنهار على كده، دي بتقول كلام، باينها شافت كتير الولية دي، ربنا يكون في عونها. •••
حتى وهي في تمام صحتها لم تكن عزيزة بارعة الجمال، ولم تكن حتى جميلة. كانت طويلة رفيعة ذات أنف طويل رفيع ورقعة سوداء تعصب رأسها على الدوام، ووجه أصفر وعينين واسعتين على إحداهما نقطة بيضاء من رمد قديم. ولكنها لم تكن هكذا طيلة عمرها. كانت ذات يوم بنتا حلوة ذات أهداب وشعر ونهود، تضع الكحل وتطقطق بالشبشب إذا سارت وحاذت الشبان. كانت هكذا إلى أن زوجوها إلى عبد الله. وأيضا كان لها ليلة حنة وفرح ودخلة ونقوط وماء ساخن حملته لها أم عبد الله في الصباحية، صباحية لم تستمر إلا صباحا واحدا، والصباح الذي يليه كانت في الغيط. لم يكن لزوجها أرض يزرعها وحتى لم يكن له أرض يستأجرها. كان يعمل باليومية، يوم فيه وعشرة ما فيش، وعماده كله على مواسم الترحيلة حين يقبض من الحاج عبد الرحيم المقاول، وتحمله عربات النقل إلى تفاتيش كثيرة من تفاتيش مصر في الدقهلية والشرقية وحتى إلى الفيوم وبني سويف كانت تحمله العربات. غير أنه من يوم أن تزوج عزيزة لم تعد العربات تحمله وحده، أصبحت تحمل معه عزيزة. وبدل اليومية الواحدة أصبح يقبض يوميتين. وسنين طويلة حافلة قضاها هو وعزيزة في الغربة وبلاد الناس رأيا فيها الكثير وجمعا القليل. ولكنهما عاشا وخلفا عبد الله الصغير وناهية وزبيدة، عاشا يقبضان القبضية من الحاج عبد الرحيم في موسم القطن ويعيشون جميعا عليها بقية العام. يعيشون غصبا ومحايلة وبالجبنة أحيانا وبالعيش الحاف والملح في أحيان، ولكنهم يعيشون والسلام. إلى أن حدث ما كان لا بد أن يحدث، مرض الزوج، بدأ الأمر بمغص في الجانب الشمال ثم انتقل إلى اليمين ثم سرى في البطن كله، ثم بدأ البطن نفسه ينتفخ بالماء. وقالوا لعبد الله اكو بالنار فكوى بالنار، وقالوا له بلهارسيا وطحال فانهدت البقية الباقية من حيله، وإبر المستشفى في المركز تندك في ذراعه وتفرغ سمها الهاري في جسده وتجعله يهوي، وتجعله يدوخ أحيانا ويرشون على وجهه الماء. ويوم فيه ويوم ما فيش! وكل يوم يذهب إلى المستشفى لا بد أن يصحو من الفجر، ويكون هناك في السابعة وإلا ضاع دوره، ويعود في العصر أو في المغرب ماسكا بردعة حمار من حمير بلدياته مستندا إليها، أو ماشيا عشر خطوات ومستريحا عشرا.
ومع هذا كله فقد ظل عبد الله يذبل ويذبل وكأن جسده يموت بالتدريج، ولا قوة في الأرض تستطيع أن تمنعه أو توقفه، حتى أقعده داء المية. والواقع أن الداء لم يكن هو الذي أقعده، الحاج عبد الرحيم هو الذي هزمه حقا وطرده من فوق عربة النقل، ولم تفلح الوساطات أو الشفاعات لديه؛ إذ ماذا يفعل به والوسية بالتأكيد لن تقبل أن تحتسبه نفرا؟ وبكت عزيزة ونزلت هي الأخرى من العربة. وقال لها الناس: روحي أنت فأبت وقالت: نفوتها السنة دي يمكن السنة الجاية نطلع سوا. وغضب عبد الله وقال له: روحي أنت، ولكنها أبت وقالت: وأسيبك على مين؟
وظلت عزيزة بجواره. تخبز للجيران أحيانا، وتلم روث البهائم وتبيعه، وتسرح بالحطب إلى المركز وتعود بقرش أو بقرشين، وفي كل أسبوع أو عشرة أيام تحظى بيومية. وعبد الله راقد في صحن دارهم الواطئة، بطنه عال، وصوته واهن، ويده المعروقة الصفراء تربت على عبد الله الصغير في ناحية وعلى ناهية وأختها في الناحية الأخرى، ويحس أنه فعلا مريض وأنه عاجز وأنه لولا عزيزة لماتوا جوعا، ومع هذا لا يطاوعه ضميره فيئن وتتقبض يداه وينظر إلى السقف المهبب المنهار بعينين قد كبرهما الداء ووسعهما وجعلهما تبرزان وتلمعان لمعانا غريبا ويقول: كده يا رب؟! يرضيك مراتي توكلنا؟
كان يستكثر هذا على نفسه، بل عزيزة هي الأخرى كانت تتألم، وهي تراه راقدا أصفر منفوخا عاجزا، ولكن الزمن، الزمن القوي القادر ما لبث أن تكفل بكل شيء، فلم يعد عبد الله يستكثر هذا على نفسه ولا على عزيزة، ولم تعد عزيزة تنظر إلى مرض عبد الله على أنه أمر غريب أو نشاز. أصبح كل شيء طبيعيا. هي تخرج من الصباح ولا تعود إلا بشيء، وهو يحرس الدار التي لا شيء فيها ويرعى الأولاد، ويتحين الفرصة ليجرع الماء الذي تحرمه عليه عزيزة حين تكون موجودة، فقد قالوا لها إن علاجه في منع الماء عنه.
أصبح الأمر طبيعيا إلى الدرجة التي قال لها عبد الله ذات يوم بدلع المريض حين يهده المرض ويجعله عصبيا كالأطفال، كثير المطالب كالولد المدلل، قال لها: نفسي في البطاطا يا عزيزة.
وطلبات المريض مجابة ومقدسة، وكأن أهله يرون فيها الشفاء، أو وداع الدنيا.
وقالت له عزيزة: يا حبيبي، من عيني دي ومن عيني دي.
ولم تكن في البلد بطاطا، كانت هناك زرعة بطاطا في فدان قمرين ولكنها جمعت من زمن وبيعت وأرضها تهيأ للأذرة، ولكن طلب عبد الله عزيز وعليها أن تحاول، وهي تعرف أن أهل البلد - بعد ما جمعت البطاطا - قد أشبعوا أرضها حفرا وتنقيبا بحثا عن جذر بطاطا يكون قد أخطأته فأس جامعها، وأن لم يعد في فدان قمرين أي أمل في العثور على عقلة إصبع، ولكن طلب عبد الله عزيز وغال وعليها أن تفعل المستحيل.
وحملت عزيزة فأس عبد الله التي صدئت من قلة ما تستعمل، وذهبت إلى فدان قمرين، وقصدت أقل الأمكنة حفرا وأخذت تعمل، وحفرت إلى عمق متر ولم تجد، وانتقلت إلى مكان آخر أعملت فيه الفأس وأيضا لم تجد، كانت تجد كل شيء، جذور الزرع القديم وشقافة ورملا وأحيانا قطع حديد ولكنها لا تجد أبدا جذور بطاطا.
Página desconocida