ففرت من عينيه دمعتان أخيرتان وقال: اللي تشوفه حضرتك، دي - وديني وما أعبد - فاجرة، وعلي يمين الطلاق إن ما كان اللي لقيوه الصبح ده ابنها، أصلها عايزة تخلف وفاكراني مبخلفش. وديني فاجرة.
ووجد المأمور في إجابته نخنخة معناها عدم الرغبة، فعاد يؤكد له سيخصص المغربية كلها لزكية، وسيريها فيها نجوم الظهر. •••
ويبدو أن نجوم الظهر في ذلك الوقت كانت هي ما يشغل بال دميان. كان حاملا سبت الطلبات في طريقه للبحث عن أكلة سمك لبيت أخيه، ولكنه حين وصل إلى القنطرة الحجرية توقف في وسطها تماما، وتطلع إلى الشمس التي تتوسط السماء. والناس - في العادة - إذا تطلعوا للشمس لا يحتملون ضوءها الباهر فيغلقون عيونهم، أما دميان فقد كانت لديه تلك القدرة الخارقة، القدرة على التطلع إلى الشمس والنظر فيها دون أن يغمض عينيه.
ولم تكن تلك القدرة هي السبب في أن بعض أطفال الفلاحين التفوا يتفرجون على دميان في وقفته تلك، السبب هو أنه كان يتطلع إلى السماء ثم يفرد كم جلبابه الأيسر ويحسب عليه بأصابع يده اليمنى ويقول لنفسه: منصورة، إن شاء الله منصورة.
أما من هي المنصورة، ولماذا وكيف تنتصر، فذلك أمر لم يكن دميان يقوله حتى لو كان الناس قد سألوه عنه.
وبيت المأمور يقع تماما عبر الترعة، والواقف في نافذة بلكونته الصغيرة المطلة على العزبة كان يستطيع أن يشهد ما يدور فوق القنطرة الحجرية بوضوح، ويشهد دميان في موقفه المضحك ذاك. ولكن الواقف لم يكن واقفا كان واقفة! كانت الست أم صفوت زوجة المأمور، سيدة في الأربعين من عمرها بيضاء ممتلئة الساقين والردفين، ترتدي - رغم مكانة زوجها - نفس المنديل بأوية الذي ترتديه العائقات من نساء الفلاحين ونفس الثوب المشجر الواسع التفصيل. كان أمر دميان يحيرها من زمن حتى أنها سألت الست عفيفة زوجة أخيه عنه مرة، وزاغت هذه من الإجابة. واليوم، لأمر ما، ربما لهذا اللغط الكثير الذي دار حول اللقيط والحرام وما يصح وما لا يصح، فقد بلغ حب استطلاعها أشده، هي حبيسة بيتها الكبير ليل نهار، لا تزور ولا تزار إلا في النادر، زيارات تنغص عليها عيشتها، زيارات متكلفة عليها فيها أن تجامل زوجات الموظفين وتدعي أمامهن الرقي والتمدين، وأحيانا تتكشف ادعاءاتها فتخرج وتخجل وتنفرد بنفسها وتبكي، ويلها من فكري أفندي زوجها إذا أخطأت! فكري أفندي الذي - على الرغم من مضي أكثر من عشرين عاما على زواجهما - لا تجرؤ على مناداته بغير يا فكري أفندي، أو بالكثير في لحظات التجلي لا تزيد عن قولها: يا أبو صفوت. أحيانا تحن إلى طفولتها الأولى في بيت أبيها الفلاح. أحيانا تتمنى لو كان في استطاعتها أن تفعل مثلما يفعل نساء الفلاحين وتستحم في الترعة مثلا، أو تخبز بنفسها العيش وتخرج الرغيف مستديرا تام الاستدارة كما كانت تفعل في بيت أبيها.
فكري أفندي من بحري وهي صعيدية، رآها زوجها حين كان يزور قريبة ناظر محطتهم فأعجبته، وفي يوم وعدة ليال تزوجها. ومنذ أن تزوجها وصلتها تكاد تكون مقطوعة بأهلها، حتى أخوها حين يأتي لزيارتهم في التفتيش بلاسته الصعيدية وقفطانه وحذائه ذي الرقبة الطويلة والأستك، يخفي فكري أفندي أمر زيارته. وإذا سأله البعض عنه قال إنه من الرجال الذين يعملون عند والد الست، وإنه يأتي ليطمئن أباها عليها. وكل تلك النوازع والهواتف كانت أم صفوت لا تستطيع أبدا تحقيقها، كان عليها أن تمثل دور زوجة المأمور المتكبرة المحترمة على الدوام. نزوة واحدة فقط هي التي كان يتاح لها أن تحققها دون أن يتهمها زوجها بالخطأ، ودون أن ينالها عقاب. دميان! كثيرا ما كان يأتي إلى البيت ليستعير حلة أو مصفاة أو «فروطة»، أو لينقل رسائل أم لنده إليها، وما من مرة جاءها فيها إلا وأبقته لتتحدث إليه. وتبلغ أقصى درجات السعادة وهي تتحدث إليه؛ إذ تترك نفسها على سجيتها تماما معه. تطلب منه أن يقرأ لها الفنجال، ولا يكون طلبها إلا فاتحة للكلام، والغريب أن دميان كان ينطلق لسانه معها فيحدثها مثلا عن مشاكله مه الفراخ، ومشاكله مع زوجة أخيه، وأحيانا يبكي أمامها بكاء كبكاء الأطفال، ومع هذا تشاركه البكاء.
كان دميان لا يزال واقفا في منتصف القنطرة وهي لا تزال واقفة في نافذة البلكونة، والشيء الخطير الذي يؤرقها في تلك الساعة لم يكن هو رغبتها في الحديث التافه الذي كانت تستعذبه مع دميان، ما كان يؤرقها هو المشكلة التي طالما أرقت نساء العزبة: ترى أدميان فيه للنساء أم لا يصلح لهن؟ كانت هذه المشكلة كلما خطرت لها اعتبرتها عيبا وحراما لا يصح أن تسمح لنفسها بالخوض فيها، ولكن في تلك الساعة لا تدري - هي نفسها - لماذا تعتبر أن التفكير فيها لم يعد حراما أو عيبا. إنها لا تريد - لا سمح الله - أن تخطئ مع أحد بله دميان، كل ما في الأمر أنها تريد أن تعرف، فهل يعد هذا حراما؟
كلما طالت وقفتها في النافذة وطالت وقفة دميان أمام عينيها على القنطرة، كانت الرغبة تستبد بها، حتى وصلت إلى الدرجة التي لم تعد تستطيع معها صبرا.
وهكذا نادت على فاطمة، وهي إحدى البنات الكثيرات اللائي يشتغلن في البيت، ويحتسبن من ضمن الأنفار الذين يعملون في الغيط، نادت على فاطمة وطلبت منها أن تذهب وتأتي بدميان. لم يكن في ذهنها خطة واضحة لما انتوته، ولا ماذا تفعل إذا هرب هو كالعادة من الإجابة على السؤال، هل تستدرجه؟ هل تخدعه؟ هل تغريه وتمضي في نهاية إغرائه إلى نهاية الشط لترى إن كان سيستجيب؟ لم تكن في ذهنها خطة واحدة ولكنها كانت قد صممت أن تعرف أمر دميان ولو أدى ذلك إلى أن تفعل معه المستحيل.
Página desconocida