قالت - بعد وقت وبعد أن تأملت بسمته وملامحه الحلوة: بس دي صعبة ما أقدرش عليها. - إييه؟
قال أحمد هذا وهو يقرصها مرة أخرى في بطنها، وقوست هي نفسها لتبعد بطنها عنه ولتقرب وجهها منه وتحاول أن تثنيه، ولكنها كانت تعرف أن محاولتها فاشلة، فما صمم على أن ينال شيئا إلا ناله، وما يقوله إن هو إلا أمر عليها أن تطيعه.
صمتت برهة، ثم انفرجت ملامحها قليلا وابتسمت، ورفعت سبابتها وأشارت إلى عينها اليمنى ثم إلى عينها اليسرى، وكأنها تقول: من عيني دي ومن عيني دي.
وفي ذلك الوقت جاءهما من بعيد صوت خشن مبحوح يؤذن لصلاة العشاء، صوت «أبو» إبراهيم. ومع أن صاحبه كان بعيدا عن المصلى حيث الأذان والصلاة، إلا أن الصوت هبط عليهما فأنهى المقابلة في الحال. واستدارت أم إبراهيم تطقطق بشبشبها عائدة وكأن صوت أبي إبراهيم قد فاجأها متلبسة، أما أحمد سلطان فقد مضى على مهله، ينظر إلى العزبة والأضواء القليلة المبعثرة فيها ويشم رائحة الأرز والسمك والبصل وهي تختلط بروائح الدخان القابضة، ويتأمل الليل المحيط الكبير، ويحلم بلنده حين تأتي ذات مساء إلى بيته، إلى حجرته العتيدة، خجلى خائفة، وكيف سيؤنس وحشتها، وسيحيل خجلها بقدرته الخارقة إلى جرأة ودلال وإقدام. •••
طال العشاء على غير عادته، واستمرت السهرة القصيرة التي تعقبه جزءا أطول من الليل، وظل جنيدي فاتحا دكانه مشعلا «كلوبه» إلى ما بعد العاشرة، وعلى حائط القنطرة الحجرية امتدت جلسة الرجال، وكان لا حديث إلا عن اللقيط.
ولم تكن العزبة الكبيرة وحدها هي التي شغلت بالحديث، فقد انتقل الخبر إلى العزب المجاورة، بل والقرى المجاورة أيضا، حمله إليها «الشغيلة» الذين يعملون في التفتيش ويقطنون في تلك القرى. فالحادث جلل والحياة في التفتيش تمضي سهلة لينة لا يعكر صفوها إلا خناقة تنشب بين اثنين أو سرقة صغيرة ترتكب. أما أن يعثروا ذات صباح على لقيط مقتول، فذلك أمر تنعقد له المجالس ولا تنفض، ويختلف الناس حوله ولا يتفقون، والناس في التفتيش يجيدون الكلام، تلك طبيعة جبلوا عليها واشتهروا بها، بل يقولون إن سببها هو السمك الذي يكاد يكون الطعام الرئيسي لأهل التفتيش وأهل المنطقة بأسرها. يجيد الواحد منهم حكي الحكاية وإبراز تفاصيلها، ويجيد إيراد الحجج وتفنيدها، حتى نطقهم للحروف، تجده - من كثرة استعمالهم للكلام - واضحا لا لبس فيه. الحديث لديهم هواية، بل يكاد يكون هوايتهم الوحيدة ولهم فيه نوابغ أولئك الذين إذا حضروا مجلسا كان لسانهم أذلق لسان وتصدروه. نوابغ كثيرون، الأسطى محمد أحدهم ومحمد أبو طلبة، وسيدهم جميعا الشيخ عبد الوارث الكبير. والشيخ عبد الوارث لا يجيد الحديث فقط، ولكنه أيضا يجيد الفلاحة، والفلاحة حرفة فيها المهرة والكسالى، والأغبياء والأذكياء، فيها الذي يحدد بنفسه ميعاد الري، وفيها من يروي أرضه فقط لأن جاره أروى. والشيخ عبد الوارث يكاد يكون أكثر أهل التفتيش حذقا للفلاحة، بل يكاد يكون المستشار الدائم للفلاحين إذا أعيت أحدهم الحيل في أرضه. وهو بشاربه الذي ليس بالكث أو الرفيع، وعمامته النظيفة دائما وبشرته السمراء وعينيه البنيتين الواثقتين، كانت كلماته المطمئنة البطيئة فيها القول الفصل في كل خلاف ينشأ، بل كان المأمور لا يبت في أمر من الأمور الكبرى في التفتيش مثل ميعاد زرع الأرز، أو حرث أرض القمح وتسويتها لاستقبال حبات الأذرة، إلا بعد أخذ رأي الشيخ عبد الوارث، إذ رأيه دائما فوق رأي مستشاريه من الخولة وكبار الفلاحين.
وكان الشيخ عبد الوارث يتصدر الجالسين أمام دكان جنيدي، ولأول مرة كان يبدو عليه أنه بلا رأي. كانت الآراء كلما تلاطمت واختلفت ونظر الجالسون إليه يستطلعون ملامحه وينتظرون قوله، كان لا يفعل شيئا أكثر من أن يتنحنح كالمحرج، ويقول: الله أعلم يا جماعة.
وحتى لم يطل بقاؤه معهم، لم يلبث أن استأذن وقام مدعيا أنه لم يصل العشاء، وعليه أن يصليها قبل أن يدهمه النوم.
وبقي الجالسون - مثلهم مثل الساهرين عند القنطرة أو في البيوت - حائرين، والغرابوة بدا أنهم بريئون من التهمة، والعزبة لم تترك امرأة فيها أو بنتا إلا ونوقشت سيرتها وتأكد الناس من أنها ليست الفاعلة، لم يبق إلا أن اللقيط من عزبة مجاورة أو من قرية أخرى، ولكن السؤال كان: لماذا يكبد أحدهم أو إحداهن نفسه أو نفسها مشقة السير الطويل لإلقاء اللقيط وكان بوسعه أو بوسعها أن يتركه في قلب الغيطان؟
بيتان فقط من بيوت التفتيش لم يناقش فيهما أمر اللقيط أو جاءت سيرته. بيت فكري أفندي المأمور الذي سألته زوجته على الغداء عن قصة الجنين، فاكتفى بأن غمغم بضع غمغمات تعرفها أم صفوت جيدا، وتعرف أنه لا يقولها إلا حين يود إقفال باب الحديث. وحين يريد فكري أفندي إقفال باب الحديث فمعنى هذا أن باب الحديث يجب أن يقفل، فهو رجل لم يتزوج امرأة تشاركه حياته، تزوج واحدة تخدمه، واختارها حلوة تجيد الطبيخ ولا تعرف شيئا عن ذلك العالم الغريب الكائن بعد باب المنزل والحافل بالشرور والآثام.
Página desconocida