قال: نعم.
قال له: استنى يا سيدي علي، أيوه أقول لحضرتك.
وجلس ، وفتح الدفتر الذي معه وأخرج الدواية والريشة وكتب على الورقة أمامه: اتنين في اتنين يساوي أربعة.
ثم قال لصاحب الأرض: أيوه يا سيدي، الاتنين في اتنين بأربعة ما عدا السهو والخطأ.
حينئذ قال صاحب الأرض: بس، أنت اللي تاخد الوظيفة، مبروكة عليك.
الحرص والحذر وعدم ترك الشيء للصدف ذلك ما علمه إياه المعلم قيصر قدست روحه، وذلك ما جعله يخلفه في وظيفته حين مات، وما جعله يعمل في التفتيش أكثر من أربعين عاما ماضيا على تلك القاعدة بلا سهو أو خطأ، يقبل عليه مآمير ومفتشون ويذهبون وتباع الأرض وتشترى وهو وحده الثابت الخالد، قابعا وراء مكتبه الضخم وعلى يمينه أكوام الدفاتر أقل دفتر منها يزن عشرة كيلو جرامات، وعلى يساره أكوام. وهو العالم الخبير بكل أحوال التفتيش وتاريخه، يعرف كل فلاح بالاسم والأب والأم، ويتذكر السلفة التي أخذها فلان حتى قبل أن يفتح الدفتر، يعامل الفلاحين - رغم عشرته الطويلة لهم - بأبلغ الحذر ويختلط بهم ويضحك معهم ويستشيرونه في أحوالهم وأخص خصائصهم، ولكنه دائما مسيحة أفندي الباشكاتب.
واللقيط جعل الفأر يلعب في عبه لأنه أدرى الناس بالإشاعات التي تروج في التفتيش وخاصة تلك التي تروج عنه وعن عائلته. ومسيحة أفندي كان له ثلاثة أولاد: اثنان منهم في ثانوي والثالث الأكبر أخرجه من المدارس وسعى حتى جعله كاتبا في عزبة قريبة. وكانت له ابنة واحدة جعلها تأخذ الابتدائية ثم أقعدها في البيت تنتظر العريس، والعرسان قليلون؛ إذ من أين يعلم العرسان بهذه الغادة الجالسة تنتظرهم في ذلك المكان النائي الكائن على شمال الدنيا؟ وحتى كونها أجمل بنت في التفتيش لم يشفع لها. فبالمقارنة إلى بنات الفلاحين كانت لنده بيضاء كالقطن المندوف. لونها وحده كان كافيا ليجعلها ملكة جمال، مع أنها كانت حين تسافر إلى أقاربها في شبرا مصر مع أمها كانت الأم تسمع بأذنها همسات قريباتها والجارات بأن أنفها كبير وفمها أوسع قليلا مما يجب، وقدها غير ممشوق وشعرها خشن أكرت.
ولكن هذا يحدث في شبرا مصر، أما في التفتيش فهي الجميلة بلا منازع، الجميلة إلى الدرجة التي كان الشاب من شباب الفلاحين يدق قلبه بالانفعال حين يلمحها من بعيد تطل من شباك بيتهم، أو تتمشى مع عائلتها وعائلة المأمور على الترعة.
والمشكلة في عائلة المأمور هذه؛ فزوجته الست أم صفوت فلاحة، أو هكذا تبدو حين تتحدث مع الست عفيفة زوجة الباشكاتب التي تربت في مصر وتعلمت وتمدينت. ولأن الست أم صفوت كانت زوجة الرئيس فقد كانت الست عفيفة على الدوام تحرجها وتظهر لها مدى فلحها وجهلها، وتفعل هذا بلباقة شبرا وحذر زوجها مسيحة. وكانت أم صفوت تغضب وتركب - حينئذ - رأسها وتتحدى وتقضي الساعات الطوال تلعن عفيفة أمام نساء الفلاحين وتنال منها. والمشكلة أيضا ليست في المأمور وعائلته، المشكلة في ابنه الوحيد صفوت، كان في العشرين من عمره راسبا لثالث مرة في التوجيهية مدللا من أبيه وأمه والفلاحين وكل قاطن في التفتيش. طوال النهار معلقا البندقية الخرطوش في كتفه، مرتديا جلبابا بلديا أبيض مثل الجلاليب التي يرتديها الفلاحون كنوع من العياقة، وبرنيطة صفراء ومنظارا أسود ومنقبا عن اليمام يصطاده، ولا يحلو له إلا صيد اليمام. وكان لا يحلو له الصيد إلا على الترعة المارة من أمام بيت الباشكاتب. والعلة يعرفها الجميع، فمن أعوام مضت والناس تتحدث عن الصائد واليمام، وعن سي صفوت والست لنده، والغرام المشبوب الذي تحده الترعة، ويحده عدم وجود الفرصة واختلاف الدين ويحتبس في صدر صفوت، وينغلق عليه صدر لنده بالذات، ولكنه أحيانا يطل بذراعها حين ترتفع وكأنها تمسك حديد النافذة، ويعني ارتفاعها تحية مستخفية خجلة بصورة يقولون: إن لنده تحتفظ بها في ذلك القلب الذهبي الذي يتدلى من عنقها المرمري الأبيض بخطابات يقولون إنها تتبادل عن طريق محبوب، ومحبوب هو بوسطجي التفتيش؛ إذ لم يكن للتفتيش مكتب بريد، محبوب هو الذي يذهب إلى محطة قطار الدلتا الكائن عند أول التفتيش، وحين يجيء القطار الصغير المتدحرج يتشعبط هو في النافذة المخصصة للبريد ويعطي للمستخدم ما معه من خطابات مصلحية وأهلية ويتسلم منه الوارد من الخطابات، وكان محبوب قصيرا جدا ، لا يكاد يبلغ طوله طول الأطفال؛ ولعله لهذا كان يسبق الناس ولا يمل من التنكيت على نفسه. كان صغيرا وملامحه صغيرة وساقه كانت لا تتعدى الشبر، وفي نفس الوقت أغرب بوسطجي؛ إذ لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة ومع هذا ومن قلة أولئك الذين يأتي لهم خطابات في التفتيش كان يعرف بطول المران الخطاب القادم من المنصورة للمأمور، من ذلك المكتوب بالقلم الكوبيا وبخط مائل القادم من الجعفرية من قريب الشيخ شعبان له.
وهكذا كان محبوب يوزع خطاباته، يعطي لمسيحة أفندي الخطابات المصلحية ويوزع البقية على أصحابها دون أن يخطئ في شخص أو عنوان، حتى الحقيبة التي كان يحمل فيها الخطابات كانت صغيرة جلدها كالح مجعد، كجلد وجهه. ومحبوب كان متزوجا من زكية، واحدة من أضخم وأطول نساء التفتيش، وكان الرجال حين لا يجدون شيئا يفعلونه يكتفون محبوبا ويحاولون إجباره على أن يعترف لهم كيف ينام معها، ومحبوب يستغيث والرجال يضحكون لاستغاثته واعترافاته. وأغرب شيء أن زكية كانت - على عكس زوجها - تجيد القراءة والكتابة، حتى إنها الوحيدة من بين نساء التفتيش التي كانت تستطيع قراءة الجرنال، والجرنال الوحيد الذي كان يأتي إلى التفتيش كان هو المقطم. ولا يدري أحد لم المقطم بالذات؟ ربما لأن الإدارة في مصر هي المشتركة فيه وهي التي تختار، وربما لأن المقطم كان يهتم بنشر الأخبار الزراعية أكثر من غيره، وربما لأن أصحابه كانوا هم الآخرين خواجات.
Página desconocida