لم يكن يغادر موقع الكهف إلا ليحضر ماء من حنفية الدراسة، أو يبتاع علفا للحمار، أو بعض الضرورات في نطاق ما يملك من مدخر قليل. واقترحت فلة أن تبيع قرطها الذهبي ولكنه رفض. وأخفى عنها أسباب زهده؛ لقد جاءته والقرط في أذنيها فهو من مال حرام جاء!
وتبدت الحياة في الأيام الأولى نزهة ومغامرة ورياضة، ولم تشعر بخوف في ظل زوجها الجبار. وسرعان ما تبدت خالية مضجرة لا تحتمل. ماذا؟! هل جئنا نحسب الزمن بدبيبه المتتابع فوق جلودنا؟ هل جئنا لنعد حبات الرمال والنجوم الساهرة؟
وقالت له فلة: حتى الجنة لا تطاق بلا ناس وبلا عمل.
فلم يعترض ولكنه قال: نحن مطالبون بالصبر.
وقت طويل من وقته مضى في العبادة، ووقت طويل مضى في تذكر أسرته هناك وأهل حارته، حتى قال لزوجه مرة: ما أحببت الناس قط كما أحبهم اليوم.
وكان يحظى بنصيبه من النوم في النهار ويسهر الليل بطوله. وترامت تأملاته حتى شعر شعورا عجيبا بأنه عما قريب سيسمع أصواتا ويرى أشباحا. بات صديقا للنجوم وللفجر، وقال إنه من ربه قريب، لا يحجزه عنه شيء، وإنه لا يدري لم يستسلم أهل حارته للموت، ولا لم يقرون بعجز الإنسان؟ أليس الإقرار بعجز الإنسان كفرا بالخالق؟ واشتبك في أحاديث صامتة لا نهاية لها مع ماضيه، الشيخ عفرة، ست سكينة، الناطوري، زينب، وأحاديث حميمة حزينة مع حسب الله ورزق الله وهبة الله. حسب الله كان مرشحا دائما لصداقته فيا للخسارة! رزق الله لا خير فيه ولكنه ذكي. أما هبة الله فمتعلق بأمه بدرجة لا تليق. على ذلك فهو يقر بأنهم خير من كثيرين من أضرابهم، ودعا لهم ولأمهم طويلا. ولاحت له حارته مثل جوهرة غارقة في الوحل. إنه الآن يحبها حتى بسوءاتها، ولكن ثمة فكرة تتسلل إليه خلال عباداته المتواصلة بأن الإنسان يستحق ما يعانيه! الوجهاء والحرافيش ودرويش يدورون حول محور منحرف يرغب حقيقة في القبض على سره الماكر العسير، وها هو الله يعاقبهم جميعا كأنما قد ضاق بهم! ورغم ذلك يثمل الفجر بغبطته الوردية، ويرقص شعاع الضياء في مرح أبدي! إنه على وشك أن يسمع أصواتا، ويرى أشباحا، إنه يتمخض عن ميلاد جديد.
39
وثمة فرصة سنحت ليملأ قلب فلة بالإيمان. إنها امرأة صغيرة جميلة لا دين لها، لا تعرف الله ولا الأنبياء ولا الثواب ولا العقاب. يحفظها في هذه الدنيا المرعبة حبها وأمومتها. حسن، إنه يلقى عناء في تعليمها، ولولا ثقتها فيه ما صدقت كلمة واحدة مما يقول. تحفظ سور الصلاة في عناء. يغلبها الضحك فتخرج من الصلاة، وتصلي اتقاء لغضبه واستجلابا لمرضاته.
وسألته ببراءة: لماذا ترك الله الموت يفتك بالناس؟
فأجابها بعنف: من يدري؟ لعلهم في حاجة إلى تأديب.
Página desconocida