Haqiqat Al-Bid'a - within 'Athar Al-Mu'allimi'
حقيقة البدعة - ضمن «آثار المعلمي»
Investigador
عدنان بن صفا خان البخاري
Editorial
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٣٤ هـ
Géneros
الرسالة الثانية
حقيقة البدعة
6 / 85
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الهادي من يشاء سواء سبيله، الموفق من ارتضى لاتباع كتابه وسنة رسوله، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد.
أمَّا بعد، فإنَّني ألَّفتُ رسالة في (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله)، ونَبَّهتُ في مقدمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس، ويستندون إليها، وهي غير صالحة لذلك، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردته في رسالة.
ثم وجدتُ إيضاح الحقِّ فيه يتوقَّف على تحقيق البدعة التي قال فيها النبي ﵌: "كل بدعة ضلالة" (^١) ورأيتُ الكتب والرسائل التي أُلِّفت في التَّحذير من البِدَع منها ما لا يكاد يستفيد منه إلَّا العلماء ككتاب "الاعتصام" للشاطبي. ومنها ما هو غير محرَّرٍ كـ"الباعث" لأبي شامة. ورأيتُ الكلام فيها يحتاج إلى بسط، فآثرت إفرادها برسالةٍ أقتصر فيها على ما لا بد منه، ومن الله تعالى أستمدُّ التوفيق.
_________
(^١) أخرجه مسلم (٨٦٧) وغيره، من حديث جابر ﵁.
6 / 87
فصل
ذكر الشاطبي في "الاعتصام" كثيرًا من الأحاديث والآثار عن الصَّحابة والتابعين والأئمة والصَّالحين، وأنا أرى الأمر أوضح من ذلك، فإنَّ البِدْعَة هي: "إلصاق أمر بالدين وليس من الدين"، وهذا ما لا يخالف عاقل في قبحه وذمِّه.
ولن تجد صاحب بدعة فتسأله عن بدعته، أمِنَ الدين هي في نفسها، أم هو جعلها منه= إلَّا أجابك بأنَّها من الدين في نفسها، وإنَّما وقع الاشتباه فيما هو من الدين ممَّا ليس منه.
فأقول: لا خلاف أنَّ الدِّين وضعٌ إلهيٌّ، وأنَّ دين الحق ــ وهو الإسلام ــ هو ما وضعه الله ﷿، وبلَّغه خاتم الأنبياء ﵌.
فلْنسأل صاحب البدعة: أرأيتَ هذا الأمر أَمِن الدِّين الذي بلَّغه محمد ﵌ عن ربِّه؟ فإن قال: لا، فقد انتهى الأمر.
وإن قال: نعم، قيل له: فاذكر لنا دليله.
وإن قال: لا أدري، وإنَّما أفعله احتياطًا، قيل له: أرأيتَ هذا الاحتياط أَمِنَ الدين الذي بلَّغه الرسول؟ فإن قال: لا، فقد كفانا شأنه، وإن قال: نعم، طالبناه بالدليل، وإن قال: لا أدري، وإنِّما أحتاط احتياطًا، أَعَدْنا عليه السؤال، وهكذا.
وإذا ذكر ما يراه دليلًا فهو على أضرب:
الضَّرْب الأول: ما ليس بشُبهةِ دليلٍ عند أهل العلم، مثل قوله: أنا أرى أنَّ هذا أمر حَسَن، وكالرؤيا، وكالتجربة ونحوها.
6 / 88
الثاني: ما فيه شُبْهةُ دليلٍ للعامِّي، كاستناده إلى قول بعض المقلِّدين من أهل العلم، أو إلى قول بعض من اشتهر بالصلاح والولاية، أو إلى عمل الناس في بعض الجهات بدون إنكار من العلماء، ونحو ذلك.
الضَّرْب الثالث: ما هو ــ من حيث الجملة ــ من الأمور التي يجوز للعامَّة التمسُّك بها، ولكنه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك قول المجتهد.
الضَّرْب الرابع: ما هو ــ من حيث الجملة ــ من الدَّلائل مطلقًا، ولكنَّه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
فصل
فأمّا الضَّرْب الأول: فدَفْعُه إجمالًا أن تقول له: أرأيتَ هذا الضَّرْب من الاستدلال أَمِن الدِّين الذي بلَّغه محمد ﵌ عن ربِّه؟ فإن قال: نعم، فطالبه بالبُرهان على ذلك، بعد أن تُعلمَه أنَّ البرهان ههنا لا بدَّ من أن يكون قطعيًّا؛ لأن المسألة من أصول الفقه.
فإن طالبك بالحُجَّة على ذلك فاتْلُ عليه قول الله ﷿: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: ٣٦]، وبيِّن له أنَّ الآية على عمومها.
فأمَّا العمل في الفروع بخبر الواحد ونحوه ممَّا لا يفيد إلَّا الظنَّ فذلك لأنَّ وجوب العمل بخبر الواحد ثابتٌ قطعًا، والقطع مستفاد من مجموع أدلَّته منضمًّا بعضها إلى بعض.
6 / 89
ونظير ذلك شهادة العَدْلَين على أمر، هي في نفسها تفيد الظَّن، لكن وجوب الحكم بها قطعي، فلم تُغْن من الحق شيئًا من حيث هي ظنٌّ، بل من حيث إنَّ وجوب العمل مقطوع به، وهكذا خبر الواحد بشَرْطه.
وأمَّا التَّفصيل فإذا قال: أنا أراه حسنًا، قيل له ــ مع ما تقدَّم ــ: هل ترى أنَّ للإنسان أن يجزم في كلِّ (^١) ما يراه حسنًا أنَّه من الدِّين الذي بلَّغَه النبي ﵌ عن ربِّه؟ وقد قال تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤]، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "من استحسن فقد شَرَّع" (^٢). نقله المحلِّي في "شرح جمع الجوامع" وغيره (^٣)، وزاد فيه بعض
_________
(^١) في الأصل: "فيما كل"، وهو سبق قلم.
(^٢) بتشديد الراء وتخفيفها، يُنْظَر: "حاشية البنَّاني على شرح المحلِّي لجمع الجوامع" (٢/ ٣٥٣)، و"حاشية العطَّار" عليه (٢/ ٣٩٥).
(^٣) "شرح جمع الجوامع" (٢/ ٣٥٣). وقد ذكره الغزالي في "المستصفى" (٢/ ٢٦٧)، و"المنخول" (ص ٣٧٤)، وغيرُه.
وكأنَّ هذه العبارة تلخيصٌ من بعض العلماء لقول الشافعي في "الأم" (٦/ ٢٠٠): "ومن قال هذين القولين قال قولًا عظيمًا؛ لأنَّه وَضَع نفسه في رأيه واجتهاده واسْتِحْسانه على غير كتابٍ ولا سنَّة موضعهما في أن يُتَّبع رأيُه كما اتُّبعا .. ".
قال العطَّار في "حاشيته على شرح المحلِّي" (٢/ ٣٩٥): "قال المصنِّف في الأشباه والنَّظائر: أنا لم أجد حتى الآن هذا في كلامه نصًّا، ولكن وجدتُ في الأمِّ: أنَّ من قال بالاستحسان فقد قال قولًا عظيمًا .. الخ" وأشار إلى ما تقدَّم نقله.
6 / 90
العلماء (^١): "ومَن شرَّع فقد كفر".
فأمَّا الاستحسان الذي حُكِي عن مالك وأبي حنيفة فذاك دليل يقوم في نفس المجتهد، من أثر معرفته بالقواعد الشرعية والأحكام المتعدِّدة، ولكنَّه لا يمكنه أن يُسْنِده إلى نصٍّ معيَّن، وليس هناك دليل أقوى منه يخالفه. وقد حقَّق الشَّاطبي هذا المعنى في "الاعتصام" فراجعه (^٢).
وأمَّا ما رُوِي عن ابن مسعود: "وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (^٣)، فمُرَاده ما رآه جميع المسلمين، وذلك هو الإجماع.
وإذا استند إلى رُؤْيَا قيل له ــ مع ما تقدَّم ــ: قد صحَّ عن النبي ﵌ أنَّ الرُّؤيا منها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو من حديث النَّفْس، ومنها ما هو من الشيطان (^٤).
_________
(^١) نَسَبه الزَّركشي إلى أصحابه الشَّافعيَّة، فقال في "البحر المحيط" (٦/ ٨٧): "قال أصحابنا .. " وذكره. وقال البدخشي في "مناهج العقول" (٣/ ١٤٠): "من أثبت حكمًا بالاستحسان فهو الشَّارع لهذا الحكم، فهو كفرٌ أوكبيرةٌ".
(^٢) "الاعتصام" (٣/ ٦٢ - ٦٦، ٩١).
(^٣) أخرجه أحمد (١/ ٣٧٩)، والحاكم (٣/ ٧٩)، والبزَّار (٥/ ٢١٢) وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن أبي النجود عن زِر بن حُبيش عن ابن مسعود موقوفًا، وقد صحَّح إسناده أوحسَّنه موقوفًا: الحاكم ووافقه الذَّهبي، وابن القيم في "الفروسية" (ص ٢٣٨)، وابن عبد الهادي (كما في "كشف الخفاء" ٢/ ٢٤٥)، وابن كثير في "تحفة الطالب" (ص ٤٥٥)، وابن حجر في "الدِّراية" (٢/ ١٨٧)، والألباني في "الضَّعيفة" (٥٣٣)، وغيرهم.
(^٤) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٧٠١٧) ومسلم (٢٢٦٣) وغيرهما، من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "والرُّؤيا ثلاثة، فرؤيا الصَّالحة بُشرى من الله، ورؤيا تحزينٍ من الشَّيطان، ورؤيا ممَّا يحدِّث المرءُ نفسه". لفظ مسلم.
وثَمَّ اختلاف في رفع الحديث ووقفه، ذكره الدَّارقطني في "العِلل" (١٠/ ٣١ - ٣٤)، ثمَّ صحَّح رفعَه.
6 / 91
وتَضَافرت الأدلة على أنَّ الرُّؤيا الحق تكون غالبًا على خلاف ظاهرها، حتى رُؤيا الأنبياء ﵈، كرُؤيا يوسف إذ رأى الكواكب والشمس والقمر، وتأويلها أَبَواه وإخوته (^١)، وكرُؤيا النبي ﵌ دِرْعًا حصينة فأَوَّلها المدينة، وسيفًا هَزَّهُ ثم انكسر، ثم هَزَّهُ فعاد سالمًا، فأَوَّلها بقوَّة أصحابه، وبقرًا تُنْحَر، فأَوَّلها بمَن يُقتَل من أصحابه، وسِوارَين من ذهبٍ فأوَّلَهما بمسيلمة والأسود العنسي (^٢). وأمثال ذلك كثير.
فَمَن رأى النبي ﵌ على صفته التي كان عليها فرُؤياه حقٌّ، ولكن إذا
_________
(^١) يعني: في قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾، وقوله بعد ذلك: ﴿يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ [يوسف: ٤، ١٠٠].
(^٢) أمَّا رُؤْيَاهُ ﷺ الدِّرع الحصينة: ففيما أخرجه أحمد (١/ ٢٧١)، والنسائي في الكبرى (٧٦٤٧)، والدَّارمي (٢٢٠٥)، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر ﵁. وقد صحَّح إسناده ابن حجر في "الفتح" (١٣/ ٣٤١)، و"التغليق" (٥/ ٣٣٢)، وحسَّنه الألباني في "الصَّحيحة" (١١٠٠). وفي الباب حديث ابن عباس ﵄، يُنْظَر: "التغليق" و"الفتح" لابن حجر، و"الصَّحيحة" للألباني، نفس المواضع الآنف ذكرها.
وأمَّا رُؤْيَاهُ ﷺ للسَّيف الذي هزَّه والبقر التي تنحر: ففيما أخرجه البخاري (٣٦٢٢) ومسلم (٢٢٧٢)، وغيرهما، من حديث أبي موسى الأشعري ﵁.
وأمَّا رُؤْيَاهُ ﷺ للسِّوارين: ففيما أخرجه البخاري (٣٦٢١) ومسلم (٢٢٧٤)، من حديث أبي هريرة ﵁.
6 / 92
رآه فعل أو قال شيئًا فذلك الفعل أو القول يحتاج إلى تعبير، فقد تراه يأمرك بشيء، ويكون تعبيره أنَّه ينهاك عنه، وعكس ذلك.
ولهذا أجمع الأئمَّة على عدم الاحتجاج بالرُّؤيا، وإنَّما يُسْتَأنس بها إذا وافقت الدليل الثابت من الكتاب والسنة، كأن تراه ﵌ يحضُّك على صلاة الجماعة، أو يزجرك عن أكل الحرام، ونحو ذلك.
وإذا استند إلى التَّجربة، كما حكى لي بعضهم أنَّ رجلًا اعتاد تقبيل ظُفْرَي إبهامَيْه عند قول المؤذن: "أشهد أنَّ محمدًا رسول الله" ثم تَرَكه لما قال له بعض أهل العلم: إنَّه بدعة، والحديث الذي يُرْوَى في ذلك حَكَم عليه المحدِّثون بأنَّه كذبٌ (^١)، فلمَّا تَرَك ذلك أصابه وَجَعٌ في عَيْنَيه فأخذ يعالجهما بأدوية مختلفة، فلم تَنْجَع، حتى قال له بعض المتصوِّفة: التزمْ تقبيل إبهامَيْك عند الأذان، فوقع في نفسه أنَّ ذلك الوَجَع إنَّما أصابه عقوبةً على ترك تلك العادة، فعاد لها فبَرِئَت عَيْناه= فقل له ــ مع ما تقدَّم ــ: إنَّ الله ﷿ يبتلي عباده بما شاء، ويستدرج أهل الضَّلال من حيث لا يعلمون،
_________
(^١) تُنْظَر الأحاديث التي في هذا الباب مجموعةً فيما ذكره السَّخاوي في "المقاصد الحسنة" (١/ ٦٠٤ - ٦٠٦).
وقد أشار المؤلف ﵀ إلى هذه القصَّة بإجمالٍ في حاشية تحقيقه لـ"الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني (ص ٣٨ - حاشية ٦)، وبيَّن أنَّ الرجل الحاكي للقصَّة لَقِيَه في الهند. قال المؤلِّف ﵀: "فقلتُ له: إنَّ الدِّين لا يثبت بالتَّجربة، وسَلْ عبَّاد الأصنام تجد عندهم تجارب كثيرة، وذكرتُ قصَّة ابن مسعودٍ وامرأته".
وسيأتي ذكر قِصَّة ابن مسعود مع امرأته (ص ٩٦ - ٩٧).
6 / 93
وقد سمعنا عن عِدَّة أشخاص أنَّ أحدهم كان تاركًا للصلاة، ثم رَغَّبَه الواعظون فيها وخوَّفوه من عقوبة تركها فشرع يحافظ على الصلاة، فأصابته مصائب في أهله وماله، فرأى أنَّ ذلك من أثر الصلاة فتركها.
ونحن نقول: يجوز أن يكون ما أصابه من أثر الصلاة. وتفسير ذلك ما جاء في الحديث: "إن الله طيِّب لا يقبل إلَّا طيبًا" (^١)، فمِن شأنه سبحانه أنَّ العبد إذا تَرَك معصيةً يمتحنه ليظهر حقيقة حاله، وما الباعث له على ترك المعصية، الإيمان أم غيره؟
فإذا صبر على تلك المصائب تبيَّن أنَّ الباعث له على ترك المعصية إيمان ثابت، فيجبره الله ﷿ في الدنيا أو الآخرة، ويكفِّر عنه بتلك المصائب بعض ذنوبه المتقدِّمة، ويدفع عنه بتلك المصائب مصائب أعظم منها كان معرَّضًا للوقوع فيها.
كان رجل من قوَّاد يزيد بن معاوية، فسَقَط من سطح فانكسرت رجلاه فدخل عليه أبو قلابة ــ المحدِّث المشهور ــ يَعُودُه، وقال له: لعلَّ لك في هذا خيرًا، قال: وأيُّ خيرٍ في كسر رجليَّ معًا؟ قال: الله أعلم. فبعد أيام جاء رسولُ يزيدٍ إلى ذلك القائد فأَمَرَه بالخروج لقتال الحسين بن عليٍّ ﵉ فقال للرسول: أنا كما تراني، فعذروه، وكان ما كان من قتل الحسين، فكان القائد بعد ذلك [يقول]: رحم الله أبا قلابة، قد جعل الله لي في كسر رجليَّ خيرًا أيَّ خير، نجوتُ من دم ابن رسول الله ﵌، أو كما قال (^٢).
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٠١٥) وغيره، من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٢) القِصَّة بنحو ما ذكرها المؤلِّف في: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (٢٨/ ٣٠٧)، و"المنتظم" لابن الجوزي (٧/ ٩٢)، وغيرهما.
إلَّا أنَّ فيها أنَّ الرجل من قوَّاد "عبيدالله بن زياد"، ولا تعارض بينهما؛ فعبيد الله بن زياد من قوَّاد يزيد بن معاوية.
6 / 94
وقد يبدل تلك المصائب نعمًا.
وإن سقط فالله غنيٌّ عن العالمين. وقد قال الله ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١].
وهؤلاء السَّحَرة والذين يرتكبون بعض الفظائع تقرُّبًا إلى الشياطين كثيرًا ما يحصل لهم بسبب ذلك نفع في دنياهم (^١)؛ لأنَّ الله ﷿ يخلِّي بينهم وبين الشياطين، فتنفعهم الشياطين نفعًا ظاهرًا في دنياهم وتهلكهم الهلاك الأبدي.
وقد يبتلي الله ﷿ كبارَ المؤمنين فيسلِّط بعض السَّحَرة الفُجَّار عليهم، حتى لقد وَرَد أنَّ بعض اليهود عمل عملًا من أعمال السِّحر فاعترى النبي ﵌ مرض بسببه (^٢).
وقد مكَّن الله ﷿ المشركين فأصابوا من المسلمين يوم أُحُدٍ ما أصابوا، فقُتِل حمزة عم النبي ﵌ وكثير من أصحابه، وشُجَّ وجه النبي ﵌، وكُسِرت رباعيته، بأبي هو وأمي، فأنزل الله تعالى: [﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
_________
(^١) في الأصل: "دينهم". وهو سبق قلمٍ.
(^٢) هو لبيد بن الأعصم اليهوديّ. والخبر عند البخاري (٣٢٦٨) ومسلم (٢١٨٩)، من حديث عائشة ﵂.
6 / 95
قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩ ــ ١٤٢]] (^١).
وتأمّل الأحاديث التي وردت في صِفة الدَّجَّال (^٢).
وقد روى أبو داود وغيره (^٣)
عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: [عن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﵌ يقول: "إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّوَلَة شِركٌ" قالت: قلتُ: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذفُ وكنتُ أختلف إلى فلانٍ اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سَكَنَتْ. فقال عبد الله: إنَّما ذاك عمل الشيطان، كان يَنْخَسُها بيده، فإذا رقاها كفَّ عنها، إنَّما كان يكفيك أن تقولي
_________
(^١) بيَّض المؤلِّف للآيات، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم.
(^٢) يعني: ما يجريه الله على يديه من الأمور التي تكون استدراجًا له ولأتباعه، وفتنة للكافرين به.
(^٣) أبو داود (٣٨٨٣). وأخرجه أحمد (١/ ٣٨١)، والبيهقي (٩/ ٣٥٠)، وغيرهم، من طريق أبي معاوية وعبد الله بن بشر عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن زينب امرأة عبد الله عن ابن مسعود ﵁ بنحوه. وخالفه عبد الله بن بشر - عند ابن ماجه (٣٥٣٠) - فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "ابن أخت زينب" عن زينب. وخالفهما محمد بن مسلمة الكوفي - عند الحاكم في المستدرك (٤/ ٤١٧ - ٤١٨) - فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "عبد الله بن عتبة بن مسعود" عن زينب، دون ذكر قِصَّة اليهودي.
وقد ضعَّفه الألباني في "الصَّحيحة" بجهالة ابن أخي زينب، والاضطراب في إسناده، ونكارة القصَّة. يُنظَر كلامه في "الصَّحيحة" تحت الحديث (٢٩٧٢).
6 / 96
كما كان رسول الله ﵌ يقول: "أذْهِب البأس، ربَّ الناس، اشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلَّا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا"] (^١).
ومن ذلك ما حكاه لي بعضهم: أنَّه إذا صلَّى المكتوبة منفردًا يَرِقُّ ويخشع، وإذا صلَّى في الجماعة لا يخشع!
والسبب في هذا: أنَّ الشيطان يحاوله على ترك الجماعة، فيخشِّعه إذا صلَّى منفردًا، ويهوِّش عليه (^٢) إذا صلَّى جماعةً ليَحمِلَه على ترك الجماعة، مع اعتقاد أنَّ الانفراد أفضل، فيكون في ذلك من مخالفة الشريعة ما هو أضرّ عليه من ترك الجماعة.
ومن ذلك: ما وجدتُه أنا، فإنِّي كنتُ في حال حسنةٍ في أهلي ومالي، فأنفقتُ نفقةً في وجهٍ من وجوه الخير، وهَمَمْتُ بغيرها فأصابني بعض نوائب في أهلي ومالي، ولكنِّي بحمد الله ﷿ لم ألتفت إلى ذلك، فنفَّذتُ ما همَمَتُ به، ثم فعلتُ مثله مرَّةً ثالثة، وإلى الآن وتلك النَّوائب لم يتم انجلاؤها.
وظهر لي توجيهٌ لتلك النَّوائب، وهو أنَّه يمكن أنَّ تلك النفقة وقعت موقع القبول عند الله ﷿، فأراد أن يكافئني عليها بأن يطهِّرني من بعض الذنوب التي عليَّ، وهذه النَّوائب من ذلك التَّطهير.
ومن ذلك: أنَّني كنتُ رأيتُ بعض المشايخ يكتب كلمة (بدُّوح) (^٣) على
_________
(^١) بيَّض المؤلِّف للحديث، واكتفى بقوله: "عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: "، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم.
(^٢) يعني: يخلِّط عليه.
(^٣) كلمة "بدُّوح": تميمة تكتب على وفق معين، كمثلَّث، أومربع، أومخمَّس، أونحو ذلك، لجلب خير أولدفع شر، وتكتب أوتعلَّق مكتوبةً فيمن يراد تعويذه، إنسانًا كان أوغيره، وهي مستعملة كثيرًا عند أرباب الشَّعبذة.
6 / 97
صفةٍ مخصوصةٍ، ويتعلَّقها المَحْمُوم، فكنت أنا أكتب ذلك لِمَن به حُمَّى، فكانوا يقولون: إنَّها تنقطع الحُمَّى عنهم، حتى لقد كتبتها لرجل في تهامة فعاد إليَّ بعد مدَّةٍ، وأخبرني أنَّه علَّقَها فلم تعاوده الحُمَّى، وأنَّ رجلًا من أصحابه أصابته الحُمَّى، فأعطاه تلك التَّميمة عينها فانقطعت عنه، وأظنُّه ذكر ثالثًا، وقال: إنَّ تلك التَّميمة اشْتَهَرت في قريتهم، فصار كل من أصابته الحُمَّى يستعيرها، ثم إنِّي تدبَّرت أحكام السنة والبدعة ووقفت على ما ورد في التَّمائم فامتنعت من كتابة (بدُّوح)، حتى إنَّه يُصاب ولدي وغيره ممَّن يعزُّ عليَّ بالحُمَّى فتحدِّثُني نفسي أن أكتبها فأمتنع، أسأل الله تعالى أن يوفقني لما يحبُّه ويرضاه. وأقول كما قال النبي ﵌: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" (^١)، اللَّهم لا تكلني إلى نفسي، فإنَّك إن تكِلْني إلى نفسي تكلني إلى ضعفٍ وعورةٍ وعجزٍ.
والمقصود: أنَّ الاستناد إلى التَّجربة وإن كثر من المتصوِّفة ونحوهم ليس حُجَّة، ولا شِبْه حُجَّة، ولم يقل بأنَّه حُجَّة أحدٌ من سلف الأمة، ولا أحد من الأئمَّة والعلماء الرَّاسخين.
وقد رأيتُ جماعة من الناس يعتمدون في أمور دنياهم على القُرْعة
_________
(^١) أخرجه الترمذي (٢١٤٠)، وأحمد (٣/ ٢٥٧)، والحاكم (١/ ٥٢٦)، وغيرهم، من حديث أنس ﵁. وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم.
وفي الباب حديث النواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو، وأم سلمة، وعائشة، وغيرهم ﵃.
ويُنْظَر: "السلسلة الصَّحيحة" للألباني (٢٠٩١).
6 / 98
والفأل، إمَّا بالنَّظر في المصحف أو كتاب آخر، وإمَّا بالسُّبحة ونحوها.
ويمكن أن يغلو بعضهم فيعتمد مثل ذلك في إثبات الأحكام الدينية، وذلك جهل وضلال.
وقد حُكِي أنَّ بعض الطُّغاة ــ وكان اسمه الوليد ــ تفاءَلَ في المصحف يومًا، فوقع على قول الله ﷿: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥]، فمزَّق المصحف ورمى به، وقال:
تُهَدِّدُني بجبَّارٍ عنيدٍ ... فَهَا أنَا ذاكَ جَبَّارٌ عنيدُ
إذا ما جئتَ ربَّك يوم حَشْرٍ ... فقل: يا ربِّ مزَّقني الوليدُ (^١)
وهذه الطريقة التي اعتادها الناس في التَّفاؤل قبيحة جدًّا، فإنَّه ربَّما يريد شراء دار ــ مثلًا ــ فيتفاءل، فيَظْهَر الفألُ بما يراه أمرًا بالشراء، ثم يظهر له بالدلائل العادية أنَّ شراءها ضررٌ عليه في دينه ودنياه، فإن غلا بعضهم واستعمل مثل هذا في الأمور الدِّينية كالحج، بأن يستخبر الفأل، أَيَحجُّ أم لا؟ فربَّما خرج الفأل [ينهى] (^٢) عن الحج.
_________
(^١) الطاغية المقصود هو: الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، أحد ملوك بني أميَّة، قتل سنة ١٢٦ هـ.
والخبر في: "المنتظم" لابن الجوزي (٧/ ٢٤١)، و"الكامل" لابن الأثير (٤/ ٤٨٦)، و"الأغاني" للأصفهاني (٦/ ١٢١)، و"نهاية الأرب" للنويري (٢١/ ٢٩٤)، وغيرها من مصادر التاريخ والأدب بنحو سياق المؤلِّف، وفيها: أنَّه نصب المصحف ثم رماه بسهمٍ، ثم أنشد البيتين. ولفظهما في بعضها: "أَتُوْعِدني" بدل "تهددني"، و"خرَّقني" بدل "مزَّقني".
(^٢) زيادة يقتضيها السياق.
6 / 99
وأشد من ذلك إن استعملها في إثبات الأحكام، كأَنْ يستخبر في صيام يوم معيَّن، أَمِنَ السُّنَّة هو أم لا؟ فيخرج الفأل بأحدهما على خلاف الدليل الشرعي، فيقع في الحيرة؛ لأنَّه يزعم أنَّ الفأل بمثابة أمرٍ من الله ﷿، وهو كاذب في هذا الزَّعم، مخطئ في تفاؤله.
هذا الضَّرْب من التَّفاؤل الذي هو من باب الاستقسام بالأزلام، قال الله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠].
ولكن انظر إلى ما شَرَعَه الله ﷿ لعباده عوضًا عن ذلك، وهو الاستخارة الشرعية، فيصلِّي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو الله ﷿ فيقول: "اللَّهم إنِّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ــ أو قال: عاجل أمري وآجله ــ فاقدره لي ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ــ أو قال: في عاجل أمري وآجله ــ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به" قال: "ويسمِّي حاجته" (^١).
فهذا هو النُّور والهُدى الذي لا يوقع في حيرة ولا ارتباك، ولا فيه دعوى أنَّ الله أمر أو نهى، وإنَّما فيه دعاء يرجو العبد أن يستجاب له.
_________
(^١) أخرجه البخاري (١١٦٢) وغيره، من حديث جابر ﵁ قال: "كان رسول الله ﷺ يعلِّمُنا الاستخارة في الأمور كما يعلِّمُنا السُّورة من القرآن، يقول: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فلْيَركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: .. " وذكره.
6 / 100
وقد كنتُ أولًا جريًا على العادة أتفاءل بالقرآن، فتفاءلتُ يومًا فوقعتُ على قول الله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]. فبدا لي أنَّ فيها كالدلالة على النَّهي عن التَّفاؤل بالقرآن، فنظرتُ في هذه المسألة فظهر لي النَّهي من الأدلة الثابتة، فتركتُ ذلك. والحمد لله.
ومن التَّجربة التي وقع فيها الناس من كتابة العُوَذِ (^١) التي تشتمل على تعظيم الملائكة والكواكب والجن، أو على ألفاظ غير معروفة المعنى، أو غير ذلك ممَّا لم يكن معروفًا في سلف الأمة، وإنَّما أخذه الناس عن الصَّابئة كما ذكره الشَّهْرِسْتَاني في "المِلَل والنِّحَل" (^٢)، وقد يتعدَّون ذلك، فيذبحون للجن، ويقرِّبون لهم الأطعمة وغير ذلك، يعملون هذا للمصاب بالصَّرَع ونحوه، وقريبٌ من ذلك عند الزواج أو بناء دار أو نحو ذلك؛ ليدفعوا شرَّ الجن.
وقد كان العلماء إذا أُتوا بمصروع قرأوا عليه الرُّقية النَّبوية ونحوها من الآيات والأدعية، ويكتفون عند الزَّواج والبناء ونحوه بذكر اسم الله ودعائه، فنَشَأ من المعزِّمين (^٣) من ليس له دين ولا يقين، فلم تنفع رقيتهم بالآيات والدعاء فرجعوا إلى استرضاء الشياطين بما يُعدُّ عبادة لهم، والعياذ بالله.
_________
(^١) جمع: "عُوْذَة"، وهي: الرُّقْيَة. كما في "القاموس المحيط" (مادة: عوذ).
(^٢) (٢/ ٣٥٩).
(^٣) جمع "معزِّم"، وهو قارئ "العزائم" أي: الرُّقى. كما في "القاموس المحيط" وغيره (مادة: عزم).
6 / 101
ولقد أصيب ولدي بالمرض الذي يعتري الأطفال ويسميه الأطباء "أمَّ الصبيان" (^١)، فقالت بعض العجائز لامرأتي: ينبغي أن تَفْدُوا عنه بذبيحة، فقالت لي زوجتي: فقلت لها: الفِدية إنَّما تكون مرَّةً واحدة، وهي العقيقة، وقد عملناها، ثم رأيتُ زوجتي اشترت دجاجة فظننتُ أنَّها تريد تذبحها لأهل البيت، ثم فقدتُ الدجاجة، فتوهَّمتُ أنَّها أَرْسَلَت بها، فأُطْلِقَت في الصِّحراء، فأنكرت عليها ذلك، وعرَّفتها أنَّ هذا الفعل خطر على الدِّين، وأنِّي أرى هلاك ولدي وهلاك أمِّه وهلاكي وهلاك كل من نحبُّه خيرًا لنا من مثل هذا الفعل.
ثم لم تلبث زوجتي أن عَرَفَت أنَّ الذي بالطِّفل مرضٌ من الأمراض، ينشأ عن القَبْض وغيره، وينفع الله فيه بالأدوية، فزال عنها اتِّهام الشيطان.
ثم بعد مدَّة طويلة أصيبت هي بالمرض الذي يسمَّى "اختناق الرَّحِم" (^٢)، واشتدَّ عليها حتى خُولِطَت في عقلها، وكانت تعرض لها عوارض شديدة من التشنُّج والحركات المضطربة وغير ذلك، وصادف حدوث ذلك بعد أن وقعت بينها منافرة وبين بعض النساء فتوهَّمَتْ أنَّ ذلك سِحْرٌ.
_________
(^١) أم الصِّبيان: الحاصل من كلام المتقدمين أنَّه: تشنُّجٌ يصيب الطفل بسبب الحمَّى. فأهل اللغة ذكروا أنَّه: ريح تَعْرِضُ للصبيان فربما يُغشى عليهم، وقدماء الأطباء كابن البيطار وابن سينا والأنطاكي قالوا: إنَّه نوع من الصَّرع، وقد يقتل من أصيب به. وقال في "بحر الجواهر في تحقيق المصطلحات الطبِّية" (ص ٣٦): "هو الصرع الصفراوي". ويُنظَر أيضًا: "القانون" لابن سينا (٢/ ٧٨).
(^٢) اختناق الرَّحِم: الحاصل من كلام الأطبَّاء المتقدمين كابن سينا وغيره أنَّه: آلام وأوجاع في الرَّحِم تتعدَّى إلى غيره فيصيب المرأة غشي، سببه احتباس دم الطَّمث عن المرأة.
ويُنظَر: "القانون" لابن سينا (٢/ ٧٧)، و"الحاوي" للرازي (٩/ ٥٦).
6 / 102
واختلط الأمر على أمِّها ونسائها، فتارةً يقُلْنَ: إنَّه سِحْرٌ، وتارة يقُلْنَ: إنَّه من الشيطان، وتارة يقُلْنَ: مرضٌ. أمَّا أنا فلم أشك أنَّه مرض، ولكنِّي جوَّزت أن يكون الشيطان ربَّما يَعْرِض للمريض فيخيِّل له ويسوِّل، كما يَعْرِض لمن يقع سببٌ يُغْضِبه فينفخ فيه ويزيد في إشعال غَضَبه.
وأرى أنَّ ما اشتهر عن جماعة من الصَّالحين قبلنا أنَّهم كانوا يرقون المصروع ونحوه فيفيق= أنَّ ذلك حقٌّ، وأنَّ ما يقع للمُعَزِّمين من معالجة المصروع ونحوه بالأعمال المحظورة شرعًا فيفيق= أمر واقع.
وإنَّما الفرق: أنَّ الصالحين عندهم من الإيمان واليقين ما يستجاب به دعاؤهم فيُطْرَد الشيطان، وأنَّ المُعَزِّمين يُرْضُون الشيطان بالأعمال المحظورة فيفارق المريض، وإذا فارق الشيطان المريض خَفَّت وطأة المرض.
لا أرى أنَّ الصَّرَع من أصله من فعل الشَّيطان، بل أرى أنَّ الشيطان يَعْرِض لمن يعتريه ما يُضْعِف عقله فتتضاعف عليه عوارض المرض.
وجوَّزت أن يكون اقترنت بالمرض عينٌ خبيثة؛ لأنَّه كانت قُبَيْل المرض في بيتي دعوة، وكانت المريضة تكرِّر في هذيانها طلب الشكوى من عدم إعطائها من الأطعمة التي طُبِخَت للدَّعوة، مع أنَّ الأطعمة كانت تحت يدها، وكان يظهر من بعض كلامها أنَّها تتخيَّل امرأةً تؤذيها.
فقلت: العين حق، ويمكن أن تكون مرَّت على الباب امرأة فشاهدت الأطعمة ولم تُعْطَ منها فبَقِيَتْ نفسُها متعلِّقة بها.
وعلى كلِّ حالٍ فقد كنتُ أعالج زوجتي بالأدوية التي يشير بها الطبيب، وأرقيها بالرقية النبوية وغيرها من الآيات والأدعية، وألحَّت أمها ونساؤها
6 / 103
في أن نذهب بها إلى بعض من عُرِف بالرُّقية، فتطييبًا لنفوسهنَّ قلتُ: على شرط أنَّه إذا أشار بذبحٍ أو تقريبٍ أو فعل شيء لا ينفَّذ ذلك، فإنِّي أخشى أن يكون في ذلك ضررٌ أكبر من هذا الضَّرر.
فمِن لطف الله تعالى بي أنَّ ذلك الرجل لم يُشِر بشيء من ذلك، وإنَّما أعطاهم تميمةً لا أدري ما كُتِب فيها، وأشار بِشمِّ الحِلْتِيت (^١) ونحوه.
فأمَّا شمُّ الحِلْتِيت ونحوه فقد أشار به الأطباء، وأمَّا التَّميمة فإنَّهنَّ رَمَيْنَ بها لمَّا رأينَ أنَّ المرض زاد بعد تعليقها.
ثم قال لي بعض أصحابي: إنَّ هاهنا رجلًا صالحًا يرقي من هذه الأمراض، وقد انتفع به كثير، حتى إنَّه إذا وصل قريب البيت الذي فيه المريض يصيح الجنِّي بلسان المريض: سأخرج ولا أعود، لا تحرقني، وأشباه ذلك.
فقلتُ له: وما رقيته؟ قال: يقرأ شيئًا من كتاب الله والأدعية، ثم بعد أن يفيق المريض يعطيه سِوارًا من صُفْر قد نُقِش عليه أسماء.
فقلتُ: أمَّا السِّوار الصُفْر فلا يجوز، وأمَّا الرقية بالقرآن والدعاء فلا بأس. فذهب صاحبي ليدعو ذلك الرَّاقي، ثم بدا لي فأرسلت إلى صاحبي أن لا يَدْعُوه، فلم يدْعُهُ، ولكنَّه أخذ منه تميمة وكانت مكشوفة، فأخذتها منه فإذا فيها أسماء وأدعية وآيات، ولكنها في جداول، وبعضها بحروفٍ مقطَّعةٍ، وبعضها بالأرقام الهندية، والكتابة كأنَّها بليفة الزَّعفران، فأحَرْقْتُها.
_________
(^١) الحِلْتِيت: صمغ يستخرج من نبات يسمَّى الأنجدان، له خواص علاجية عديدة. يُنْظَر: "التَّذكرة" لداود الأنطاكي (ص ١٣٠)، و"الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (١/ ٢٨٣)، و"معجم الأعشاب المصوَّر" لمحسن عقيل (٢/ ١٦٣).
6 / 104
ثم منعتُهُنَّ من كلِّ شيءٍ غير تناول الأدوية، وما أرقيها أنا به، ورَزَقَ الله تعالى العافية، وزالت تلك الأوهام عنها وعن أمِّها ونسائها، وعَلِمْنَ أنَّ هذا مرض من الأمراض المعتادة. والحمد لله.
فصل
وأمَّا الضَّرْب الثاني (^١): فدَفْعُه إجمالًا بما تقدَّم في الضَّرْب الأول، وتفصيلًا بأن تقول لمقلِّد المقلِّد: إنَّ هذا العالم الذي تحتجُّ بقوله لم يكن مجتهدًا، وإنَّما كان مقلِّدًا، وقد نصَّ العلماء أنَّ المقلد لا يجوز له أن يفتي، وإنَّما له أن ينقل قول المجتهد، ولا يجوز العمل بفتواه التي لم ينقلها عن المجتهد، ثم تذكر له من خالف ذلك العالم ممَّن هو مثله أو فوقه.
وإن وجدتَ نصًّا عن إمامه يقتضي ولو بعمومه أو إطلاقه خلافه ذكرتَه، وإلَّا فإذا كانت تلك البدعة ممَّا يدَّعِي استحبابه ــ وهو الغالب في البدع ــ قلتَ له: إنَّ سلف الأمَّة ــ ومنهم إمامك وإمام ذلك العالِم ــ مجمعون على عدم استحباب هذا الأمر.
والدليل على ذلك أنَّه لم يُنْقَل عن أحد منهم استحبابه ولا فعله، وعدم النَّقل كافٍ في الحُجَّة؛ لأنَّ الأمور التي لا تستحبُّ لا تتناهى، فيستحيل استيعابها بالنص عليها فردًا فردًا، وإنَّما جاءت الشريعة ببيان المستحبَّات؛ لأنَّها أقرب إلى الحصر.
وجَزَمتُ بأنَّ ما عدا ذلك فهو من المحدثات التي هي شرُّ الأمور، كما في الحديث الصحيح الذي تواتر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر
_________
(^١) وهو الذي تقدم ذكره (ص ٨٩).
6 / 105