الرسالة السابعة عشرة رسالة الحنين إلى الأوطان

Página 379

بسم الله الرحمن الرحيم

إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب، سببا يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتا، ومعنى يحدو على جمع ما كان منه متفرقا. ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله بطلت الحكمة وضاع العلم، وأميت الأدب، ودرس مستور كل نادر.

ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره. ولذلك قيل: " لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الأخير ".

Página 383

وإن السبب الذي بعث على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تربها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقد النار في أكبادها، أني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلده إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وأخصب من جنابه. ولم يزل عظيم الشأن جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها وشجعانها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه؛ فكان إذا ذكر التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها، وكان كما قال الشاعر:

إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي

وأضحى فؤادي نهبة للهماهم

حنينا إلى أرض بها اخضر شاربي

وحلت بها عني عقود التمائم

وألطف قوم بالفتى أهل أرضه

وأرعاهم للمرء حق التقادم

وكما قال الآخر:

يقر بعيني أن أرى من مكانه

ذرى عقدات الأبرق المتقاود

وأن أرد الماء الذي شربت به

سليمى وقد مل السرى كل واخد

وألصق أحشائي بيرد ترابها

وإن كان مخلوطا بسم الأساود

Página 384

فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة.

وقالت الهند: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه.

وقال آخر: احفظ بلدا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاءه.

Página 385

وكان يقال: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. والغريب النائي عن بلده، المتنحي عن أهله، كالثور الناد عن وطنه، الذي هو لكل رام قنيصة. وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه.

وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعه، كالعير الناشط عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رام دريئة.

وقال آخر: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة.

وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه.

وقال آخر: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه.

وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة، وطهارة الرشدة من كرم المحتد.

وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم محتدك.

وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك.

Página 386