ولكن النفس يلحقها الجزع كلما دنت من الأمل المرتقب، فباتت أعصاب القوم ثائرة وقلوبهم حائرة، وكان يقض مضاجعهم أن يروا عامة الناس ما تزال متمسكة بالدعوة، مخلصة لذكرى الشيخ الغريب.
واهتاج الغضب حارس الأمن فصاح: ينبغي ألا تدوم هذه الحال.
ونظرت إليه أعين أحياها الطمع وأضناها الأمل، فاستدرك قائلا همسا: أعرف في مقاطعة «بتاح» راقصة فاتنة أولتها الآلهة حسنا لا يقاوم، فلماذا لا نستعيرها أشهرا؟ وإني أعلم أن حاكم الإقليم راغب في نفيها لما يهيج جمالها من الفتنة والملاحقة، فليكن إقليم خنوم منفاها إلى حين؛ وهي بغير شك حقيقة بأن تفرق ما بين الأخ وأخيه والزوج وزوجه، وبأن تغري الأغنياء بالانقضاض على السلاسل التي وضعوها في أعناقهم طائعين .. انتظروا خيرا قريبا.
وحقق ذلك العبقري فكرته الخطيرة.
وشاهدوا جميعا بأعين مشرقة بنور الفرح ذلك النظام يتقوض بنيانه ويتهاوي حجرا على حجر، وردت المعدة إلى عرشها تتحكم في الرقاب والعقول، وعادت الحياة الشيطانية تملأ جو «خنوم» الهادئ، وتعصف بالسلام المخيم على ربوعه، واستأنفت عصبة الحكم جهادها، ووجدت نفسها مرة أخرى تكافح وتناضل عن الخير والعدالة والسلام.
الورقة المهلكة
انتهى المطاف بالشمس إلى الأفق الغربي، وقد شملها الهدوء والوجوم والأسى بعد أن ولى عنها تيه الفتوة وزهو الشباب، ومضى شعاعها الشاحب يوغل شرقا مودعا رمال الصحراء المتاخمة للعباسية موسعا وراءه للسمرة الزاحفة.
ولم يكن في الطريق الذي يخترق الصحراء - في تلك الساعة - سوى سيارة بيضاء صغيرة تسير على مهل، كأنه لا غاية لها سوى المسير، ويسوقها شاب تدل نظرة عينيه المظلمتين على الملل وعدم الاكتراث.
وتقدمت السيارة في الطريق حتى حاذت أبنية المصانع الجديدة التي تشغل مساحة واسعة من فضاء تلك الصحراء، ثم وقفت أمام بناء صغير كتب على لوحة في أعلى واجهته «مطعم وقهوة الزملاء»، وكان البناء مكونا من قسمين؛ واحد مسقف رصت به موائد الطعام الخشبية التي يتناول عليها الطعام عمال المصانع القريبة، والآخر مكشوف معشوشب الأرض، وضعت به الكراسي حول نافورة من ماء آسن، أقيمت حولها عمد خشبية علقت برءوسها الكلبهات.
ألقى الشاب نظرة على البناء وقد لاحت في عينيه الأحلام، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه الممتلئتين، وغادر السيارة فبدت قامته الرشيقة وبذلته الأنيقة، ودخل إلى القهوة واختار ركنا قصيا، وكان المكان خاليا ساكنا؛ لأنه لا تدب فيه الحياة عادة إلا بعد انصراف العمال في المساء، فجلس يحتسي فنجانا من القهوة والنادل على بعد منه يرمقه بنظرة ملؤها الإنكار والدهشة.
Página desconocida