وارتدى عبد المعز ثيابه، وكانت تبدو على هيئة الطلبة الريفيين الذين يندر أن تنسجم «البدلة» مع قامتهم، ويبدو الطربوش غريبا على رءوسهم. أما الأسطى فقد وقف أمام المرآة في دل وتيه، وارتدى قفطانه الزاهي وجبته البنية الأنيقة، وأمال الطربوش حتى مس حاجبه الأيمن، وأمسك بعصاه المذهبة اليد، وتقدم قريبه يختال في مشيته كالطاووس.
والأسطي شلبي هذا بدأ حياته كصبي حلاق بسيط، ثم استقل بصالون جميل أتاه منه رزقه رغدا، ثم اشتغل بالسمسرة وصادفه فيها توفيق كبير فنمت أرباحه، واستطاع أن ينفق عن سعة على عشيقاته العديدات من نجوم روض الفرج.
أما عبد المعز فهو ابن أحد أقرباء الأسطي شلبي المدعو الشيخ طه، شيخ كتاب وواعظ بالعريش. وقد جاء فتح مدرسة العريش الابتدائية متأخرا؛ مما دعا ولاة الأمور إلى التجاوز عن شروط سن القبول، فالتحق بها عبد المعز وهو ابن ثلاثة عشر عاما، وبعد انتهائه من تعليمه الابتدائي أرسله أبوه إلى قرية شلبي ليتم تعليمه الثانوي، مؤثرا بعد القاهرة مع الاطمئنان عليه في بيت قريبه على قرب الزقازيق مع إقامته وحده.
على أن الأسطي شلبي لم يكن عند حسن ظن الشيخ طه؛ فكان يدعو أحيانا عبد المعز إلى المقهى، واقترح عليه مرة أن يعلمه النرد ليستعينا به على تزجية أوقات الفراغ. وكان الشاب حكيما مجتهدا، فلم يستسلم لإغراء قريبه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسلمه فيها زمامه فذهب معه إلى روض الفرج، ودخلا كازينو البسفور لمشاهدة رواية «اشمعنى». وبدا الشاب بطيئا في فهم النكت و«القفشات»، وأخذ يقلب عينيه بين الضاحكين في استغراب وحيرة، ولكن جذب عينيه إلى المسرح ظهور ممثلة قابلها الجمهور بعاصفة من التصفيق والتهليل، وكانت امرأة فارعة طولا وعرضا، مزججة الحاجبين مكحلة العينين محمرة الخدين والشفتين، تنوء بحمل ردفين ثقيلين ولا ريب يرهقانها ثقلا، بل ما أحراهما أن يميدا بها لولا أن وازنتهما العناية بثديين كبطيختين، وإن كانتا - بقدرة قادر - ناهضين، وكانت تتثني وتتمايل وتتخنث في كلامها وتتكسر وكأنها تتأوه وتتوجع، والنظارة لا يكفون عن إبداء الإعجاب، يرقونها من أعين الحساد. وفتل الأسطي شلبي شاربيه بقوة وزهو، ومال على أذن صاحبه وهمس قائلا: هذه عشيقتي نور الحياة .. انظر!
وكان عبد المعز ينظر بعينين جشعتين، فزاد ذلك مسرة الرجل، فعاد يقول: إن بعض الظرفاء ممن يعرفون أني المالك لقلب هذه المرأة يقولون لي: «حقا إنك لمن كبار ذوي الأملاك.»
وقهقه الرجل ضاحكا تياها فخورا.
وفي أثناء فترة الاستراحة رأى عبد المعز الممثلة الحسناء آتية صوب الركن المنعزل الذي يجلسان فيه، تتبختر كأنها ترقص، وتوزع النظرات الناعسة بلا عدل ولا رحمة، ثم رآها تسلم على الأسطى شلبي وتقول له ضاحكة: كيف حالك يا رجل؟
وسمع قريبه يحييها قائلا: وما جدوى سؤالك عن حالي ما دمت تلتهمين مالي وصحتي بلا رأفة؟
فضحكت ضحكة مثيرة، وجلست تشارب الرجل كأسا من الويسكي، وكبر على عبد المعز أنها لم تباله؛ ورأت المرأة ارتباكه، فمدت يدها المكتنزة وقرصته في خده وهي تقول: وكيف حالك يا نونو؟
فاحمر وجه عبد المعز استحياء، وأحس باستياء، وشغل بشعوره عما حوله فلم ينتبه إلى ما دار بين المرأة وقريبه، وجعل يختلس النظرات إلى وجهها الممتلئ فأحس نحوها بانجذاب عجيب، والظاهر أن المرأة لم تهمله؛ لأنها عادت تداعبه فسألته: كم عشقت من النساء يا غلام؟
Página desconocida