وفي ذلك الوقت أتاه كتاب من عائدة، فانكب عليه بلهفة، وتلاه مرة بعد أخرى، ولم يكن يخرج في معناه عن رسالتها الأولى، فتزعزعت شكوكه، وعاودته الثقة، وذاق بعض الطمأنينة والشفاء، وحمل غرور صديقه إثم ما جنى عليه كتابه من الشك والعذاب، ولكنه تسلم رسالة من صديقه بعد ذلك بأسبوع، جاء فيها: «كن على يقين من أن العاطفة النامية لم تعد قاصرة على جانب واحد؛ فعينا الفتاة - واسمها عائدة - تقتحمان الحاضرين من الشبان وتستقران علي أنا. إني أطالع في وجهها عند حضوري سيما الشوق والتطلع تحاول أن تخفيهما بعدم اكتراث مفتعل، وأقرأ في عينيها استجابات خفية لرسائلي الصامتة الملتهبة، وأستشف أحيانا على فمها ابتسامة خفيفة، ولعلها تخاطب عمها أو أحد أبنائه الصغار بصوت مسموع وهي تعنيني. لا تدهش لأقوالي فإني أطاردها في إصرار، وأتتبعها في عناء، وأخاطبها بصوت مكتوم تنبئ به عني شفتاي المتحركتان، وأبعث إليها بإشارات الشكوى والرجاء. وقد اقتربت مني مرة وهي تلاعب طفلا من أبناء عمها، وسمعتها تقول له أو لي إن شئت: «دائما في أعقابي، فماذا تصنع لو رجعت إلى مصر؟» فقلت لها بصوت مسموع: «لعلك لا تعودين ..» إنها كلمة ذات مغزي خاص إذا قالها شاب أعزب موظف مثلي؛ وقد كان لها الأثر الجميل. والآن أفتني فإنك خبير طبيب عالم بأحوالي؛ هل أقدم أم حسبي ما ذقت من لذة بريئة وأولي ظهري ودا لن ينتهي بالتئام؟ .. إن ثمرة الحب ناضجة دانية تنتظر من يقطفها، ما رأيك؟»
يا للظلام .. يا للألم الساخر .. عبثا يحاول دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب؛ فعائدة بلا ريب هي التي لا تستطيع مغالبة الشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعل، وهي التي تحادث الغير وتعني المجدود من الرجال، هي التي تجيب عيناها الإجابات الخفية .. وهي تسكرها سير الزواج.
فيا للظلام، ويا للخيبة القاتلة .. والأدهى أنه يريد منه أن يكون مستشارا في مأساة قلبه .. لعله يرجو أن يشير بما يقطع خيط العنكبوت الذي يمسك بكفه أحلامه وسعادته .. فيا للسخرية! من المستطاع أن يحاول إنقاذ سعادته فيعلن صديقه بالحقيقة السافرة، ويضع آماله بين يدي شهامته وما يعهد فيه من الإخلاص والمروءة، ولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون في حبه من المسترحمين السائلين، وهو يندفع برغبة جنونية نحو جحيم العذاب كأنما يستطيب النار الموقدة. وأبى إلا أن يعرض حبه لأقسى امتحان؛ فإما إلى نعيم الطمأنينة، وإما إلى أهوال العذاب؛ وعليه فقد تمالك وكتب إلى صديقه: «إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردد؛ فإن حكمة الدنيا لتذوب حسرة على ثمرة حب ناضجة يزهد فيها الإنسان. أقدم ولا تبال بالنتائج البعيدة، وتمتع بالحب في منفى قنا ولا تحملن نفسك هموم التفكير في الغد، ولا تغفل عن تزويدي بكل جديد؛ فإني أصبحت من تتبع حبك على حب شديد.»
وانتظر رد صاحبه بصبر نافد وجزع لحوح، حتى وافاه منه كتاب جاء فيه ما يلي: «بوركت من حكيم سديد الرأي! لقد اتبعت نصحك أيها الأخ، وضربت لها موعدا همسا، ووافيت إليه صباح اليوم الثاني وأنا حائر بين الشك واليقين، بين اليأس والأمل، ولكن لشد ما كان فرحي عندما رأيتها قادمة، والحقيقة أنها كانت مترددة مذعورة على رغم خلو المكان الذي يوحي بالطمأنينة في خفية عن أعين الرقباء، وبلغ الذعر أنها مرت بي غير ملتفتة إلى يدي الممتدة كأنها جاءت لغير موعدي، فتتبعتها وحييتها وطمأنتها حتى قالت لي مضطربة: لا أدري كيف جئت .. كيف أطعتك .. إنني مضطربة.
فهدأت من خاطرها، وسكنت اضطرابها، ولاطفتها بما أوتيت من بيان ومران وحماس حتى أفرخ روعها واطمأنت.
لقد تحدثنا طويلا، بل طويلا جدا، ولو أردت أن أسطر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسعتني الأسطر؛ فحسبك أن تعلم أنها فتاة جميلة رشيقة حلوة المعشر، مهذبة الطباع، وإن كانت تغلب عليها حدة الإحساس وتوقد العاطفة والذهاب مع الخيال. وقد حامت بمهارة حول موضوع الزواج، فجاريتها بخفة ولباقة لا تهويان بها إلى قرار اليأس ولا تعلوان بها إلى عهد الميثاق، وعند الافتراق تناولت منها قبلة خلت لحلاوة جدتها أنها أول قبلة تنالها شفتاي.»
انتهى الأمر، وتبددت الأحلام، وخابت الآمال، وقضت على قلبه الذي انتهي طويلا بأفراح الحب أن يتجرع آلام اليأس والخيبة.
وانقطعت عنه رسائلها، ولكنه كان على علم متصل بأحوالها من رسائل صديقه التي جاءته تتري.
وقد كتب إليه في إحداها: «أنا - باختصار - سعيد جدا؛ فحياتي مليئة بالبهجة والمسرة، وعائدة خير عزاء عن الوحدة والوحشة في هذا المنفى السحيق، وإني كلما أذكر أني سأحرم هذه المتعة بعد شهر يشيب شعري من الهول، وأضمها إلى صدري بشغف، وألتهم منها قبلات ملتهبة كأني أختزن منها ما أعود إليه عند الفراق. أما هي فتعتقد أنها لن تعود إلى القاهرة أو أنها تعود لكي ترجع إلى الأبد؛ فمن يدريها أن لي خطيبة تنتظرني في القاهرة من سنوات طويلة؟!
وبهذه المناسبة أقول لك إن عائدة من اللاتي وهبهن الله دلالا وفتنة، ولكنها على قدر غير هين من الاستهتار والنزق، أما خطيبتي فشابة حيية هادئة الطبع وعلى خلق عظيم، وإني أدخرها للزواج وأنا سعيد.»
Página desconocida