Así Fui Creado: Una Larga Historia
هكذا خلقت: قصة طويلة
Géneros
ومن المقابر عدنا إلى بيت ولدي، فلما دخلنا بهو الاستقبال وواجهتني في صدره صورة زوجي الأول، شعرت لمرآها بصدمة لم أكن قط أتوقعها بعد أن كنت منذ قليل على قبره وأديت له واجبه، فقد أثارت هذه الصورة أمام بصري منظره الكامل في حياته، كما رأيت عينيه تنظران إلي وكأنما تريدان أن تخترقا شغاف قلبي إلى دخيلة ضميري لتريا فيه الدافع الصحيح لذهابي إلى قبره، وقيامي بما قمت به عنده، إذ ذاك رأيتني أضطرب في موقفي، وشعرت بالرعشة تسري في جسمي، وخيل إلي أن ماضي حياتنا يرتسم كاملا أمام بصيرتي، ولم يغنني ما ذكرت من صفح هذا الرجل الكريم عني، بل تضاءلت نفسي أمام هذه الذكرى، وبدا لي أن أوهامي تخدعني، وأنني لم أبلغ بعد من طهر قلبي والضمير ما حسبت أن الله أكرمني به، وأفاء علي من أجله حال الرضا.
وعدت في المساء إلى بيت الزوج الذي أصفيته حبي إلى آخر نسمة من حياته، واتخذت من أصغر حجرة فيه مصلى أخلو بها إلى نفسي ساعات وحدتي، وأحاسب فيها نفسي بعد صلواتي، وكانت كثيرات من صديقاتي يزرنني يسرين عني بعض ما أمضني من عميق شجني، وكن جميعا يجئن لابسات السواد المألوف في مصر، فرأيت ناصع البياض الذي ألبسه غير متفق مع مظهرهن، فلبست السواد مثلهن، وإن استبقيت طرحتي البيضاء لصلواتي، ولأذكر بها أيام سكينة النفس وطمأنينة الضمير، وكان ولدي وابنتي يقضيان معي أوقات فراغهما حتى لا تثقلني الوحدة بهمومها فتزيد اضطراب نفسي ووجيعة قلبي.
وبدا لي بعد زمن أن أعود إلى المدينة المنورة؛ لعل في حياتها ما يخفف عني، ويهون علي مصابي، لكني خشيت أن يبلغ ما كان يعاودني من تخاذل النفس واضطراب الأعصاب مبلغ الخطر على حياتي وأنا في وحدتي وغربتي، وقد استشرت الطبيب فأقر مخاوفي، وأشار بضرورة تريثي، فآثرت أن أبقى حتى تهدأ ثائرتي وتثوب إلي سكينتي، فإذا ذهبت بعد ذلك إلى المدينة استطعت أن أؤدي لله حقه، وأن أرجو عفوه ومغفرته.
وأقمت في بيت زوجي أستقبل زائراتي، وأستريح إلى صحبة ابني وابنتي، فإذا لم يبق بالمنزل جليس ذهبت إلى حجرة خلوتي أؤدي فرائضي، وألتمس عون الله في محنتي، وكنت أحسب أن مضي الزمن كفيل بشفاء نفسي من الاضطراب الذي كان يعتادني، لكني شعرت بعد لأي بأن نفسي تزداد اضطرابا، وبأن الأرق يتولاني، وبأن الهواجس تعصف بفؤادي، ثم إنني ما لبثت أن استبد بي الفزع حين شعرت بأن صلاتي وخشوعي وتهجدي وقنوتي لم تبق خالصة من الشوائب، فقد جعل زوجي الذي أصفيته كل حبي تتبدى لي ذكراه؛ فتنهمل من مآقي عبرات سخينة، وأذكر ما قلت له حين زارني بالمدينة من أنني أصبحت أحبه حب امرأة لرجل، وأحبه بحواسي وبدمي وبأعصابي، فيزداد دمعي هملانا على حب ملك علي كل وجودي، ثم أتى عليه الموت حين بلغ عنفوانه، وقبل أن أستمتع بثمراته.
ولم تكن هذه الذكرى المريرة بعض أحلامي وكفى، بل كانت غصة يقظتي، وكانت تساورني وأنا في صلاتي، وقد حاولت مغالبتها بالفزع إلى ربي كي ينقذني منها، فإذا هي تزداد تمكنا من نفسي، وورودا إلى خاطري، وتبلغ من ذلك أن تخرجني من صلاتي فأستغفر ربي، ثم أعود إلى الصلاة، فلا يلبث شيطان الذكرى أن يثير أشجاني، ويفسد من جديد صلاتي.
ذكرت وأنا في هذا المضطرب النفسي ما كنت قطعته لزوجي من عهد أن أعود معه إلى مصر بعد زيارة رجب لنستمتع بهذا الحب الذي استوفى كماله، وكيف اضطررت إلى العودة قبل هذا الموعد بأيام لأشهد احتضاره، ولأودعه الوداع الأخير، ترى لو أن الله قد غفر لي حقا، وكانت الرؤى التي رأيتها شاهدة بهذه المغفرة صادقة، أفكان الله يمتحنني هذا الامتحان القاسي الذي لا يصبر عليه قلب إنسان؟ أم أن تلك الرؤى كانت من أفانين الخيال، وأن هذا المصاب الذي حل بي كان بعض الجزاء الذي ادخره القدر لي عن ماضي حياتي؟
وكنت أزداد كل يوم شعورا بالوحدة والعزلة، وبأنني لم يبق لي في هذا العالم صديق أو أنيس بعد أن فقدت هذا الصديق الأنيس والزوج الحبيب. ولم يدر بخلدي في هذه الساعات التي كوت لواعج الحزن فيها شغاف قلبي أن الله وهبني ابنا وابنة يؤنسان وحدتي، ويضمدان جراح قلبي، بل كدت أنسى هذين الولدين اللذين أراهما كل يوم، وأنسى أنهما بضعة مني، وأنهما امتداد حياتي.
وكذلك كان شعوري بالفاجعة يزداد عنفا على الأيام، حتى لقد كنت في كثير من الأحيان أقضي الليل مسهدة محزونة، فإذا أوشك الليل أن يولي غفوت وطالت غفوتي فلم أستيقظ لصلاة الفجر، ثم لم يسعفني أن أستغفر عما فرط مني؛ لأنني كنت لا أكاد أتم استغفاري حتى أعود إلى بثي وحزني، وأندب ما قضى عليه الموت من حبي، وأعود على نفسي باللائمة أن لم أعد مع زوجي من المدينة المنورة إلى مصر يوم دعاني للعودة معه؛ لأمتع هذا الحب بما يشفي غلته خلال الأشهر الخمسة التي عشتها بعيدة عن هذا الحبيب، ومن يدري؟ فلعلي لو صحبته يومئذ وعدت معه لما دهمه الموت مستعجلا، ولكنت قد بعثت إليه من حيويتي وحياتي ما أطال في حياتي وحفظه لي!
وكانت تقواي تعاودني فأحاول التغلب على هذه الحال، فكنت أمرغ وجهي في التراب لعل روحي تطهر بتعذيب جسمي، وكنت أصوم الأيام المتعاقبة راجية أن يعيد إلي الصوم طمأنينة النفس، وكنت أهرع إلى البؤساء والمساكين الذين يقفون على أبواب المساجد أستجديهم كلمة عطف لعل الله أن يغفر لي، ثم كنت بعد كل ما أصنع من ذلك أشعر بنزغ الشيطان، وكأنما يقول: «وماذا أفدت من تقواك وصلواتك، وقنوتك وعبادتك، إلا أن قضيت على الرجل الذي كان يحبك حب العبادة؟! عودي إلى صوابك، وفكري لغدك أكثر مما تفكرين في أمسك، ولعل الحظ الذي أتاح لك من أنقذك من وحدتك يوم طلقك زوجك الأول يمد إليك يده مرة آخرة، ويهيئ لك من ينقذك من شجنك ومن هموم كهولتك!»
ولقد سخرت من نفسي حين نزغ الشيطان لي، ونظرت مع ذلك إلى وجهي في المرآة، فرأيتني ولا تزال في عيني جاذبية شبابي، وإن خطت الكهولة على جبيني بعض سطورها، وسرعان ما استعذت بالله من الشيطان ونزغه، وهتفت به - جل شأنه - ضارعة إليه أن ينقذني من شر نفسي، وأن يهديني إلى سواء السبيل.
Página desconocida