Así Fui Creado: Una Larga Historia
هكذا خلقت: قصة طويلة
Géneros
أما زوج الأب فشخص مستقل عنا كاستقلالنا عنه، تتضارب مصالحه مع مصالحنا، وميوله مع ميولنا، وهي تنافسنا في كسب قلب أبينا زوجها، قد تنشأ بيننا وبينها صداقة، ولكن محال أن يربط الحب الصادق بين قلبها وقلبنا، وأنى لها حب الوالدين لأبنائهما، وإن بلغت من طيبة القلب وصفاء النفس أعظم مبلغ؟ أذكر قصة طريفة تصور في سخرية عاطفة الأمومة، وكيف تسمو بفطرتها على العقل ومنطقه، فقد كان لواحد من أقارب أبي زوجتان أنجبتا في عام واحد ولدا وبنتا، وكبر الطفلان، وكان للولد غرام بأن يعض بأسنانه من يناوشه، وتأصلت هذه العادة فيه، فكان يلجأ إليها من غير أن يناوشه أحد، وإن أخته لتجلس إلى جانبه يوما إذ بدا له أن يعضها ففرت منه إلى أمها، وحمتها أمها من أخيها فبكى وأمعن في البكاء، وعرفت أمه سبب بكائه فصاحت بضرتها: «ألا تشفقين على هذا الطفل؟ وما ضر أخته إذا هو عضها واستراح وانصرف عن البكاء؟»
فأجابت أم الطفلة: «أتريدين أن يستريح هو وأن تبكي أخته لغير ذنب جنت؟ فليبك ولينفلق من البكاء فلن أريح شذوذه!»
وتبادلت الضرتان ما شاءت الشحناء أن تتبادلاه من عبارات أوحت بها لكل واحدة منهما أمومتها، ألا يدل ما في هذا الحادث من سخرية وسخف على احتقار نظرة الأمومة لكل منطق؟ أو لو كان الطفلان توءمين لأم واحدة، أفكانت تحاول أن تريح شهوة الولد على حساب البنت، أو أن تدع الولد يمعن في بكائه ولو انفلق؟ أم كانت تجد في حنان أمومتها ما يسكن الطفل عن غضبه، وما يصلح بينه وبين أخته من غير أن يعضها؟
ولا ذنب على زوج الأب فيما تتهمها به الأقاويل، فالأقاويل تريدها أن تكون لغير بنيها، وهي لا تستطيع ذلك وإن حاولته ، ولا وزر في ذلك عليها، إنما الوزر على الرجل الذي تزوج بعدما أنجب بنين، سواء تزوج في حياة زوجه الأولى أو بعد وفاتها، وما حاجة الرجال إلى الزواج بعد أن يصبحوا آباء؟! إن نساء كثيرات يكرسن حياتهن لتربية ذريتهن، وحق على كل امرأة وكل رجل أن يكون ذلك شأنه.
لست أدري لم أنزع الساعة للدفاع عن امرأة الأب بعد الذي كنت فيه من حيرة وعزلة وعدم رضا منذ تزوج أبي إثر وفاة أمي؟! فلأدع هذا ولأعد إلى قصتي، لقد انقضت الشهور منذ اشترى والدي لي البيانو، ومنذ عكفت نهاري على استذكار دروسه عكوفا أنساني شئون المنزل، وكيف تكون العناية بتدبيره، مع ذلك بقيت أشعر بالوحدة والعزلة برغم عطف أبي وحنانه، ولقد زاد في شعوري هذا حادث لم أكن أحسب أنه سيترك في نفسي أثرا، فقد كان طبيب من كبار الأطباء المتخصصين في أمراض النساء يتردد على المنزل ويعود زوج أبي، وقد كان أول أمره لا يبدو عليه حين انصرافه ما يدل على جديد، واستمر كذلك شهورا حتى رأيته يوما متهللا، ورأيت والدي يودعه إلى الباب الخارجي وعلى ثغره ابتسامة عريضة تنم عن مسرته واغتباطه، وسرعان ما علمت أن زوج أبي حامل، وذكرت لسماع هذا النبأ حديث عمتي لأبي بعد قليل من وفاة أمي تحرضه على الزواج لينجب الخلف الصالح، وليكون له بنون يحفظون له اسمه وذكره. عما قريب إذن سيشركني في عطف أبي طفل يستأثر بقلب أمه وبكل روحها ووجودها.
أتراني يومئذ أحب هذا الطفل كما لو كان ابن أبي وأمي؟ وماذا يكون موقف أمه مني؟ لعلي لم أبلغ من تحليل الموقف ما يجول الآن بخاطري، ولكني ازددت إكبابا على البيانو نهارا وعلى القراءة ليلا، ولم ألق بالا لما بدا على زوج أبي من أعراض كانت تلزمها سريرها أحيانا، وتدعوها لتكليفي بمراقبة ما يدور في المنزل، أما أبي فقد ازداد حدبا على زوجه ورعاية لها، وجعل يدعو الطبيب ليراها كل أسبوع أو أسبوعين مبالغة في العناية بها، وبالطفل المستكن في أحشائها، وكان الطبيب يستصحب في بعض زياراته طبيبا شابا يعاونه في قياس الضغط، أو في إجراء بعض تحاليل سريعة يرى الطبيب المباشر أنه في حاجة للوقوف على نتائجها لوقته.
وكان هذا الطبيب الشاب وسيما دقيق العناية بهندامه، وفي عينيه بريق خاص ينم عن الذكاء والطيبة مجتمعين، وقد كان يسرع بالدخول مع الطبيب الكبير إلى غرفة الحامل، فكان قصاراي أن ألمحه من وراء حجاب ساعة دخوله وخروجه، وكانت نظراته وحركاته تجعلني أغتبط بما أرى منه، وأود لو أستطيع التعرف إليه، أما هو فكان في شغل عني بما يوكل إليه إجراؤه في أثناء الزيارة، فإذا انصرف مع الطبيب الكبير المتخصص في أمراض النساء تابعته بنظري من نافذة غرفتي.
ولم يكن لي سبيل إلى التعرف إليه، والحجاب المضروب على النساء كان يومئذ على أشده، فلم يكن يتاح لواحدة من بنات طبقتنا أن تقف مع رجل أو تتحدث إليه أيا كانت سنه، بل لقد كانت الفتاة تخطب إلى شاب لم تعرفه ولم تره، ويكون القول الفصل في زواجها منه لأمها ولأبيها، وكان العار أكبر العار أن يكون لها في الأمر رأي، أو تكون لها فيه كلمة.
وانقضت مدة الحمل، ووضعت زوج أبي غلاما جميلا ابتهج والدي بمولده، وفاض عنه السرور به، وجاءت أخت زوج أبي، وأقامت لها حفل «سبوع» منقطع النظير، بدأت أشعر نحو هذا الطفل البريء بعاطفة الأخوة التي لم أعرفها من قبل، فلما صلب عوده وأصبح مستطاعا حمله كنت آخذه من مربيته وأضعه في العربة في بهو الطابق الأول، كما كنت أجد في النزول به إلى الحديقة خير تسلية، حتى لقد كانت هذه التسلية تصرفني إلى حد كبير عن استذكار دروس البيانو.
وتوعك الطفل فجن جنون أمه، وأسرعت إلى استدعاء الطبيب الشاب الذي عرفته أيام حملها، وفحص الطبيب الطفل وطمأن أمه وأباه، وأخذ يحدثهما عما يجب من رعاية «لولي العهد»، ورغبت الأم أن أسمع كلام الطبيب اقتناعا منها بأنني أقدر من المربية على العناية بالطفل، ولم يجد أبي بأسا بدعوتي، فلو أنني مرضت لعادني هذا الطبيب وأنا في فراشي، فلما ناداني وعرفت أن الطبيب لا يزال في غرفة الطفل شعرت بقلبي يخفق، ثم هدأت نفسي إذ وجدت الفرصة سانحة لما كنت أطمع فيه من التعرف إلى هذا الشاب الذي كان يكبرني بعشر سنوات أو نحوها ومن محادثته، واستمعت إليه يصف الدواء، فأخذت أسأله عن تفاصيل طعام الطفل وشرابه ونومه واستحمامه، وسرت زوج أبي بما بدا من عنايتي بابنها، فنظرت إلى الطبيب نظرة استعطاف، وقالت: لا تؤاخذها يا دكتور، فهي تحب أخاها أصدق الحب، وهي تتولى الكثير من شئونه.
Página desconocida