Así Fui Creado: Una Larga Historia
هكذا خلقت: قصة طويلة
Géneros
وتشتد مخاوفي أحيانا، وأكاد أسائل نفسي: أأذنبت في حق والدتي يوما حتى أجثو أمامها وأطلب عفوها ومغفرتها؟ بل لقد اعتزمت ذلك يوما، ودخلت عليها أريد أن أقبل وجهها ويديها وقدميها، وأسألها العفو عما لعله سلف مني، لكنها إذ رأتني أتخطى الباب نحوها أشارت إلي إشارة فهمت منها أنها تريد أن تطالعني بشيء أو تسر إلي أمرا، فلما دنوت منها أجلستني على السرير إلى جانبها، وأخذت تقبلني وتبكي، وكأنها هي المذنبة تطلب الصفح، ولم أملك عبراتي فوضعت خدي على خدها، واختلط دمعي بدمعها، ولم تنبس أيتنا ببنت شفة.
وإننا لكذلك إذ دخل علينا والدي، ورأى ما نحن فيه ، فانهمرت من مآقيه عبرات جعل يحاول حبسها، ثم تقدم نحونا، وقد اختنق صوته، وأخذ يقول لزوجته: آمني بالله يا حبيبتي، إنه الرءوف الرحيم، وعما قريب سيشفيك، فلا ترهقي نفسك، ولا ترهقي هذه الصبية العزيزة بما لا طاقة لها باحتماله، ودفعتني أمي عنها دفعا رقيقا لدى سماعها هذه الكلمات، فخرجت من الغرفة مسرعة إلى غرفتي، وحبست نفسي، وأرسلت العنان لدموعي، وبعد هنيهة رأيت والدي يقبل علي وحمرة عينيه تشهد بأنه مسحها ساعة دخوله عندي، وما زال يتلطف بي حتى خرجت معه من الغرفة إلى البهو، وهناك جلسنا ندعو للمريضة بعاجل الشفاء.
لكن رؤيا عمتي والدعوات الصادقة الصادرة من قلوبنا جميعا لم تكن لتغير حكم القدر، فلكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
فقد خرجت مطلع الفجر يوما من غرفتي، فإذا عمتي جالسة على باب غرفة والدتي، وإذا هي لا تكاد تراني حتى تأخذني إلى صدرها وقد هزه البكاء المختنق وتقبلني وتقول: الأمر لله يا بنيتي، والله يحفظ لك أباك. ثم إنها لم تطق كتمان بكائها، فعلا صوتها به، وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا، وأقبل أبي وعليه ثياب النوم وما يزال، وأخذ يسكن من ألمي، وكل ملامحه تدل على أنه لا يقل ألما عني، وعبراته تحدث عن عميق حزنه، ولما تنفس الصبح جاء الخدم وهن يتوقعن المصاب الفاجع، فلما عرفنه ارتفعت أصواتهن بالصريخ المزعج، وبعد سويعة أقبلت جاراتنا، وانقلب البيت مناحة تدوي أصواتها فيما حولنا من الأرجاء.
وتركنا والدي إلى غرفته وهو يدق رأسه كأنما خرج الألم به عن صوابه، وأقبل صديق له من جيراننا سمع الصريخ، وكان يتردد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته، فلما رآه والدي ناداه قائلا: أرأيت يا أخي خراب بيتي؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه، ويذكر له أن أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب، فلا مفر له، برغم هول المصاب، من أن يتجمل بالصبر حين يتقبل العزاء، وذهب الرجلان إلى السلاملك بعد أن ذهب والدي إلى غرفته، وارتدى ملابسه محاولا جهد طاقته أن يبدو في وقاره الذي اشتهر به وعرف عنه.
ودفنت أمي في مشهد مهيب، وتقضت ليالي المأتم الثلاث، وانصرف المعزون والمعزيات، وأقفر بيتنا من روحه، فكنت أرى والدي يتنقل فيه من غرفة إلى غرفة، في حين كانت عمتي تدير شئونه وتبذل الجهد لراحة أخيها وراحتي، وكم رأيت أبي في تطوافه من غرفة إلى غرفة يدق يدا بيد، أو يسير شارد الذهن، مشتت اللب كأنما أذهله الخطب الذي نزل بنا! أو كأنما يفكر في أمر خطير، وكنت كلما رأيته على هذه الحال ازددت شعورا بفداحة اليتم الذي أصابني فحرمني حنان الأم وأنا أشد ما أكون حاجة إليه. وكان والدي يحاول ما استطاع أن يخفف لوعتي، غير متكلف في محاولاته إلا ما يمليه عليه وجدانه، وتفيض به عاطفة الأبوة، وقد اختص بها الابنة الوحيدة التي رزقها منذ تزوج، وكنت ألمح في عينيه حين يحدثني أنه لم يبق له في الحياة أمل غيري، وكنت أتمنى لذلك لو استطعت أن أدخل إلى قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف الرقيق، ولم يجر في خاطري أن أبي يمكن أن يتزوج بعد موت أمي، وإنني لفي براءة صباي إذ طرق سمعي حديث يتبادله الخدم فيما بينهن وهن لا يرينني، حديث أفزعني ولم أكد أصدقه، قالت إحداهن إنها سمعت عمتي تتحدث إلى أخيها بأنه لا يزال في فتوة رجولته، وأن بيته لا يصلح إلا أن يتزوج، وأن والدي أظهر بادئ الرأي عدم الرضا إكراما لذكرى المرحومة أمي، بعد الذي كان بينهما من صادق الحب، فكان جواب أخته أنها كانت تحب المتوفاة كما كان يحبها، وأنها حزنت لموتها مثل حزنه، لكن لله في تصاريفه أحكاما لا يدركها البشر، وإنا إذا وجب علينا الوفاء لمن نحب فذلك واجب ما عاش المحبوب، أما إذا اختاره الله إلى جواره فقد سقط عنا هذا التكليف؛ لأن قيمة الوفاء في تبادله، فإذا لم يكن متبادلا فلا مسوغ لوجوده، والأموات يحلوننا بموتهم من واجب الوفاء لهم، ثم إن عمتي ضربت على الوتر الحساس من قلب أخيها، فقالت: ولعل الله قد كتب لك ذرية صالحة من البنين يحفظون اسمك، ويفتحون بيتك، والزواج سبيلك إلى هذه الذرية، وابنتك هذه لا تستطيع أن تعيش وحدها في هذا البيت الفسيح، فهي بحاجة إلى من تحسن توجيهها، وتقوم بشأنك وشأنها.
وسمع والدي هذا الكلام من عمتي فأطرق قليلا، ثم خرج بالصمت عن كل جواب، وسمعت أنا هذا الكلام من خادمات البيت فأخرجني من أحلامي السوداء حزنا على أمي إلى مخاوف أشد سوادا؛ إشفاقا من المستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعني في جحيمه، لكنني لم أكن أستطيع أن أقول شيئا أو أنبس بكلمة، وكل الذي فعلت أن منيت نفسي أن تكون إطراقة أبي شاهدا بعدم رضاه عما سمعه من أخته، ولقد بدأت أشعر لهذه العمة بالبغض والكراهية، وبدأت أفر من كل مكان أراها فيه، فإذا جلست في بهو الطابق الأول أو نزلت إلى الطابق الأرضي أسرعت إلى الحديقة ألتمس فيها الوحدة، وإذا نزلت إلى الحديقة - وقلما كانت تفعل - صعدت إلى الطابق الأعلى والتمست في غرفتي ملجأ أسكب فيه الدمع السخين على هذا اليتم الباكر.
ولست أدري أأفضت عمتي إلى والدي بميلي إلى العزلة، أم أنه لاحظ هذا الميل من تلقاء نفسه، أم أنه كان صريحا حين قال لي إن عمتي تريد العودة إلى قريتها، وإنه يؤثر أن نغير الهواء بالسفر إلى الإسكندرية والمقام بها أسبوعا أو أسبوعين؟
وسافرنا بالفعل، وسافرت معنا طاهيتنا، ونزلنا طابقا صغيرا استأجره والدي من أحد معارفه كانت به خادم صغيرة السن تتقن تنظيف المسكن وقضاء ما تحتاج إليه الطاهية من السوق القريبة منا.
وكان لهذا التغير في لون حياتنا من الأثر الحسن على نفسيتي ما خفف بعض الشيء من عميق لوعتي، فقد كنت أجد من هواء البحر المنعش في هذه الأيام الأولى من فصل الخريف ما ينشط ذابل حيويتي، وكنت أجد في زرقته الممتدة إلى الأفق حيث يتعانق الماء والسماء مسرحا لأفكار مبهمة يذوب خلالها جوى الحزن الذي ناء به صدري ، وكان صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ يداعب سمعي وكأنه أنغام يبعث تشابهها إلى الأعصاب نوعا من السآمة المريحة التي تدعونا إلى النوم كما تدعو أنغام الأم طفلها الرضيع إليه.
Página desconocida