Hafiz Najib: El escritor estafador
حافظ نجيب : الأديب المحتال
Géneros
إهداء
المقدمة
تمهيد
اعترافات حافظ نجيب
حافظ نجيب ... الصحفي
حافظ نجيب ... الكاتب الاجتماعي
حافظ نجيب ... الشاعر
حافظ نجيب ... الروائي
حافظ نجيب ... المسرحي
رواية «الحب والحيلة»
Página desconocida
رواية «محور السياسة»
إهداء
المقدمة
تمهيد
اعترافات حافظ نجيب
حافظ نجيب ... الصحفي
حافظ نجيب ... الكاتب الاجتماعي
حافظ نجيب ... الشاعر
حافظ نجيب ... الروائي
حافظ نجيب ... المسرحي
Página desconocida
رواية «الحب والحيلة»
رواية «محور السياسة»
حافظ نجيب
حافظ نجيب
الأديب المحتال
تأليف
سيد علي إسماعيل
إهداء
إلى أمي الحبيبة
صاحبة الدعوات المستجابة
Página desconocida
دعواتي لك بالصحة والعمر المديد.
ابنك سيد
المقدمة
ظهر في السنوات الأولى من القرن العشرين، كجاسوس على ألمانيا لصالح فرنسا، ثم سار في حواري وأزقة القاهرة كبائع للحمص والفيشار وحلوى الأطفال، ثم عمل خادما في منزل رئيس النيابة، بعدها وجدناه تاجرا يدعي بنفيه؛ حيث مات ودفن في القبر، وبعد ساعات عاد إلى الحياة، لنجده بارونا يهوى الآثار، ثم يعيش عاما في أحد الأديرة القبطية حيث كان راهبا، ثم نجده يتنزه في يخت حاملا لقب كونت سويدي ... وهكذا وجدناه في أكثر من شخصية بعد ذلك، منها: المسيو توندور، الخواجا غالي، مسيو أنطوان دوريه، بنفيه خادم الملكة ناتالي، محمد صبحي، الشيخ بكر، الأمير يوسف كمال، ابن شقيق أفلاطون باشا، المندوب السامي العثماني!
وهذه الأدوار والشخصيات، خلقت منه أسطورة شعبية، لا مثيل لها! فقد لقبه صديقه بنابغة المحتالين، ولقبه آخرون بألقاب عديدة، منها: أرسين لوبين المصري ... اللص الظريف ... جحا ... الثعلب! فمن هذا الشخص؟!
إنه حافظ نجيب ... الأديب المحتال! الذي قام بدوره الفنان محمد صبحي، في مسلسل «فارس بلا جواد»، ذلك المسلسل الذي أحدث ضجة فنية وسياسية عالمية، منذ فترة قصيرة! وهذا الكتاب، يتعرض لشخصية حافظ نجيب، في جوانب كثيرة مجهولة، لا يعلمها الكثيرون حتى الآن! بل هناك أشياء لا يعلمها أي إنسان حتى صدور هذا الكتاب. فإلى من لا يعلم حقيقة حافظ نجيب، أقول له:
إن حافظ نجيب كان صحفيا، حيث شارك في تحرير مجلة «العالمين» عام 1923، وأصدر مجلة «الحاوي» من منزله عام 1925. وفي هاتين المجلتين، كتب في أمور شتى ، منها: الأخلاق والاجتماع والقصص والنقد والألعاب الرياضية والتدبير المنزلي!
ولم يكتف حافظ نجيب بكونه صحفيا، بل وجدناه كاتبا اجتماعيا وفيلسوفا؛ حيث تخصص في ترجمة وتعريب الكتب الاجتماعية والفلسفية منذ عام 1912 إلى 1923. وفي هذه الفترة أصدر ستة كتب، هي: «روح الاعتدال»، «غاية الإنسان»، «الناشئة»، «دعائم الأخلاق»، «مناهج الحياة»، «الغرور». وأول كتابين أصدرهما باسم زوجته وسيلة محمد!
ومن الواضح أن هذه المجالات لم ترض غرور حافظ، فاقتحم مجال الإبداع الأدبي، حيث وجدناه شاعرا، يكتب الأشعار وهو بين جدران السجون! ثم وجدناه روائيا يكتب الروايات الطويلة المؤلفة والمترجمة، بالإضافة إلى القصص القصيرة! ومن هذه الأعمال: «الحب والحيلة»، «ثورة العواطف»، «عواطف المرأة»، «غرام الملك»، «شقاء العشاق»، «عضو البرلمان»، «روايات جونسون»، «روايات ملتون توب»، «الغرفة الصفراء»، «الشبح المخيف».
وأخيرا وجدناه مسرحيا حيث ألف مجموعة لا بأس بها من المسرحيات، منذ عام 1905 إلى 1927، منها: «نكبات الهوى»، «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة»، «في سبيل الحرية»، «بم بم»، «الهوسة». ومن خلال المسرح وجدنا حافظ نجيب يكون فرقة مسرحية عام 1919، ظلت تعمل بصورة غير منتظمة حتى عام 1927. وكان حافظ صاحب الفرقة ... ومخرجها ... ومؤلف مسرحياتها ... وممثلها الأول!
Página desconocida
وإذا كانت أغلب أعمال حافظ نجيب الأدبية المطبوعة، من الصعب الحصول عليها، إلا أن المستحيل بعينه هو أن تجد له مسرحية مطبوعة! والسبب في ذلك أن مؤلفاته المسرحية غير مطبوعة. والجديد الذي سيجده القارئ في هذا الكتاب، يتمثل في وجود مخطوطتين، يتم نشرهما في هذا الكتاب لأول مرة! المخطوطة الأولى لمسرحية «الحب والحيلة» المؤلفة عام 1915، والمخطوطة الأخرى لمسرحية «محور السياسة» المؤلفة عام 1920.
والله ولي التوفيق ...
دكتور
سيد علي إسماعيل
القاهرة في 19 / 8 / 2003
تمهيد
كلمة عن مسلسل «فارس بلا جواد»
ابتداء من أكتوبر عام 2002 ولفترة طويلة، أحدث المسلسل المصري «فارس بلا جواد» - بطولة الفنان محمد صبحي - ضجة سياسية وفنية لفتت إليه أنظار العالم. ومن الآثار السياسية العالمية لهذه الضجة، أن قدمت السفارة الأمريكية في مصر احتجاجا على عرض المسلسل؛ لأنه يعادي السامية، لاعتماده على كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون». وقد أذاعت شبكة
ABC
الفضائية الأمريكية خبرا حول هذا الموضوع، ونقلت عن إبراهام فوكسمان - رئيس مكتب مكافحة العداء للسامية في نيويورك - نقده للحكومة المصرية، لسماحها بعرض مسلسل يزيد الكراهية لليهود. كما طالب نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بمنع المسلسل أيضا، فقام أعضاء لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان المصري برفض هذه المطالب وهذه الاحتجاجات.
Página desconocida
ومع قرب عرض المسلسل في أكثر من 22 قناة تلفزيونية عربية وفضائية، تطور الأمر إلى الدعوة بسحب السفير الإسرائيلي من القاهرة، والتهديد باللجوء إلى اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة الأمريكية، للعمل على وقف المساعدات المالية لمصر؛ لأن مصر انتهكت معاهدة السلام بعرضها لهذا المسلسل. ووقف الفنانون والمثقفون المصريون موقفا إيجابيا ضد الحملة الإسرائيلية، وأصدروا بيانا أكدوا فيه حرية الفنان في إبداء رأيه الفني، وأنه حق يكفله الدستور. كما أكدوا أن المسلسل عمل درامي لا يشكل أي تهديد للسامية.
وقد قامت بعض الجماهير في أمريكا، بالتجمع أمام السفارة المصرية بواشنطن، مطالبة بوقف عرض المسلسل، وقام أيضا أعضاء الكونجرس الأمريكي بمطالبة الرئيس محمد حسني مبارك بوقف المسلسل، فأدان أحمد ماهر وزير الخارجية المصري هذه الضجة المفتعلة وغير المبررة. كما قام مركز المعلومات والوثائق الإسرائيلية في لاهاي بهولندا، بتنظيم مظاهرة أمام السفارة المصرية اعتراضا على المسلسل. أما نبيل فهمي سفير مصر لدى أمريكا، فقد فند الافتراءات التي تضمنتها افتتاحية صحيفة واشنطن بوست، بخصوص انتقاداتها للحكومة المصرية، لعدم منعها عرض المسلسل.
وقد أكد الرئيس حسني مبارك لنظيره الإسرائيلي، بأن المسلسل ليس له أي طابع معاد للسامية. ثم طالبت إسرائيل مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بتوجيه اللوم إلى مصر، بزعم معاداتها للسامية من خلال عرضها للمسلسل. وقد حاولت جماعات يهودية متطرفة في أوروبا، طرد الفنان محمد صبحي من أية دولة يحاول زيارتها، مع إغلاق المكاتب التابعة للمحطات التلفزيونية، التي ستبث المسلسل، مع فرض عقوبات على هذه المحطات.
ووصلت ضجة مسلسل «فارس بلا جواد» إلى مواقع الإنترنت، حيث طرح موقع
BBC
موضوعا للمناقشة، ومن ثم تلقى مشاركات زوار الموقع، وكان الموضوع المطروح هو: «اعترضت الولايات المتحدة وإسرائيل على بث مسلسل فارس بلا جواد، الذي ثار حوله جدل في وسائل الإعلام العربية، بين القائلين بأنه يفضح مؤامرة يهودية، ومن يرون أنه يعتمد على كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، الذي أكد باحثون عرب أنه عمل ساذج ومدسوس، ويخلو من المصداقية.»
1
وبالرغم من حدوث هذه الضجة السياسية، فقد تم عرض المسلسل في معظم القنوات التلفزيونية العربية والفضائية، وبدأت الأقلام تكتب عن حافظ نجيب واعترافاته، ومدى الصدق التاريخي فيها، ومدى التزام المسلسل بما جاء في الاعترافات من أحداث. كما قام الفنان محمد صبحي بالدفاع عن عمله، من خلال توضيح بعض الأمور، منها أن المسلسل يعتمد على الحقبة التاريخية، التي اعتمدتها «اعترافات حافظ نجيب»، الذي قاد المقاومة ضد الإنجليز. وأن إعجابه بحافظ نجيب كان بسبب قدرته على التنكر، وهو أمر اكتسبه من صديقه عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. هذا بالإضافة إلى إخلاصه لقضيتين؛ الأولى: التخلص من الاحتلال الإنجليزي. والأخرى: إحباط المخططات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين. ولأنه مشغول بكشف بروتوكولات حكماء صهيون، ويراها أساسا للصهيونية ومشروعها؛ فقد وجد صبحي في «اعترافات حافظ نجيب»، خلفية درامية خصبة لتقديم عمل يكشف هذه البروتوكولات، خصوصا علاقة حافظ نجيب بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. كما أنكر محمد صبحي ما شاع عن حافظ نجيب بأنه محتال ونصاب، وأكد أن هذه الاتهامات لا أساس لها، ولكنها شائعات أراد قائلوها تشويه المسلسل، وتشويه الدور الوطني لحافظ نجيب!
وبسبب نجاح مسلسل «فارس بلا جواد»، وجدنا أكثر من شخص يدعي أنه صاحب فكرته، بل ويطالب بحقه في المحاكم. ومنهم، طلعت نجيب المحامي، الذي رفع دعوى ضد محمد صبحي واتحاد الإذاعة والتلفزيون وقناة دريم الخاصة، اتهمهم فيها بالاستيلاء على قصته «مع القدر وجها لوجه»، التي عالجت قصة حافظ نجيب، وطالب بانتداب خبير لمقارنة قصته بقصة مسلسل فارس بلا جواد. ولكن قاضي الأمور الوقتية بمحكمة القاهرة، رفض طلبه بسبب عدم تقديمه ما يثبت بأنه صاحب فكرة قصة المسلسل. ثم وجدنا فضل عفاش - الكاتب والروائي السوري - يرفع قضية أخرى، يتهم فيها أيضا محمد صبحي بأنه استولى على قصته «أنا لا أحبك يا وطني»، وحولها إلى مسلسل فارس بلا جواد.
2
Página desconocida
غلاف المجلد الأول لمجلة «المشرق» عام 1898.
هذه خلاصة الضجة التي أثيرت حول المسلسل. ومهما يكن من أمر التزام أو مخالفة المسلسل، لما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»، التي تعتبر الأساس الأول لفكرته، فإن القائمين على ظهور المسلسل بهذه الصورة، قد وفقوا إلى حد كبير في الوصول إلى أهدافه الفنية والسياسية. فالمسلسل كان أكبر دعاية لإعادة قراءة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، وبثه في أكثر من موقع من مواقع الإنترنت، وبالتالي إتاحة الفرصة للجميع لقراءته وتفهم ما فيه من مخطط صهيوني، ظهرت نتائجه - وما زالت تظهر بقوة - في وقتنا الحاضر. هذا بالإضافة إلى أن المسلسل أعاد للأجيال الحالية فترات زمنية تاريخية، كادت أن تنسى، مثل الحلقة الخاصة بمذبحة دنشواي.
أما على المستوى الشخصي، فقد أجاب المسلسل على تساؤل كان محيرا لي منذ فترة طويلة، مفاده: لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام المصرية؟! وأظن أن القارئ لم ينس الضجة التي أثيرت حول هذا الأمر، وكم الكتابات النافية لهذا الادعاء. وما زاد من حيرتي أمام هذا الادعاء، أنني قرأت كما كبيرا من الكتابات عن الآثار اليهودية المكتشفة في مصر! تلك الاكتشافات التي تبنى الكتابة عنها الأب لويس شيخو في مجلته «المشرق» في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين!
فقد ذكر لويس شيخو أن العالم الأثري الدكتور بيتري، اكتشف بلاطة عليها كتابة هيروغليفية لرعمسيس الثاني وابنه منفتاح، تؤكد أن منفتاح استعبد شعوبا متعددة ومن جملتها إسرائيل، وأكد هذا الأمر العالمان شاباس والأب يوسف أوتفاج. كما ذكر أن إقامة بني إسرائيل في مصر بلغت 215 سنة، منذ دخول يعقوب وذريته في أرض الفراعنة، وأن العالم كلرمون غانو اكتشف في جزيرة اليفانتين أو جزيرة أسوان في مصر، آثارا تدل على موقع مدينة «يب» اليهودية، ووجد فيها 124 قطعة من الخزف، عليها كتابات آرامية، كتبها في القرن الخامس قبل الميلاد قوم من اليهود المستعمرين في تلك الجزيرة. كما تم اكتشاف مجموعة من البرديات، مكتوبة من قبل يهود الجزيرة أيضا. وكان أهم اكتشاف في هذه الجزيرة، هو اكتشاف بقايا الهيكل، الذي بناه اليهود في الجزيرة نفسها، وهو يتشابه إلى حد كبير مع هيكل سليمان في فلسطين.
3
ومن الغريب أنني لم أجد باحثا أو عالما أثريا عربيا واحد، فند هذه الادعاءات في وقتها! أو على أقل تقدير كتب رأيه العلمي في المجلة نفسها، سواء بالإثبات أو بالإنكار! رغم أن لويس شيخو نفسه، أظهر نيته السيئة بذكر هذه الأخبار، عندما قال في مجلته (المشرق، 1 / 1 / 1908، صفحة 55): «وخلاصة القول قد أظهرت بهذه المكتشفات العلاقة بين تلك الآثار الآرامية الجليلة، وبرزت إلى الوجود صفحة عزيزة من تاريخ بني إسرائيل بعد جلائهم. وما يزيد الأمر قدرا أن معارفنا عن ذلك العهد كانت أعز من بيض الأنوق، لا نكاد نعلم شيئا من أمر اليهود، منذ عهد نحميا وعزرا إلى ملك الإسكندر، فجاءت هذه الكتابات تسد بعض الخلل في ذلك.»
ولعل القارئ يتساءل: ما علاقة هذا الأمر بمسلسل فارس بلا جواد؟ والإجابة على هذا السؤال، ظهرت في إحدى حلقات المسلسل، عندما اتفق بعض اليهود مع الخواجا دي ماسون العالم الأثري الأجنبي - وهو محمد صبحي متنكرا - بأن يعطوه بعض الآثار اليهودية، كي يضعها ضمن الآثار المكتشفة في مصر، مقابل رشوة مالية! هذا المشهد فسر لي ما قاله لويس شيخو عن اكتشاف الآثار اليهودية في مصر منذ أكثر من مائة عام! كما فسر لي أيضا لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام! فإذا كان المسلسل فضح هذه المؤامرة الصهيونية، وكشف النقاب عن أسلوب اليهود في غرس آثارهم، وبالتالي وجودهم في تاريخ الشعوب العربية، فيكون المسلسل قد نجح في هدفه السياسي عن طريق الفن!
ومن عجائب القدر، أن مسلسل «فارس بلا جواد»، لم يكن أول عمل فني يعرض على الجمهور عن مغامرات حافظ نجيب! فقد قام حافظ نجيب منذ عام 1915 إلى عام 1921، بتمثيل مغامراته بنفسه أمام الجمهور، من خلال مجموعة من المسرحيات، ألفها حافظ عن حوادثه ومغامراته. ومن هذه المسرحيات: «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة »! وسوف نتعرف على هذا الأمر بالتفصيل لاحقا.
ومن عجائب القدر أيضا، أن حافظ نجيب وقبل وفاته عام 1946 بدقائق معدودة «كان يناقش أحد المخرجين السينمائيين، محاولا الاتفاق معه على تمثيل إحدى مغامراته»،
4
Página desconocida
ولكن قدر الموت منع هذا العمل الفني، ليأتي الفنان محمد صبحي، ويحقق أمنية حافظ نجيب بعد مرور ستين سنة! ومن عجائب القدر أخيرا، أن الفنان محمد صبحي تنكر فنيا في شخصية حافظ نجيب عام 2002 في مسلسل «فارس بلا جواد»، مثلما تنكر حافظ نجيب في شخصية «محمد صبحي أفندي» عام 1909 في إحدى مغامراته، عندما كان يسكن في شارع أبو السباع عند سيدة إيطالية تدعى مادلين.
5
وكأن القدر كتب على فرد منهما، أن يمثل دور الآخر!
وإذا أردنا أن نتطرق إلى مسلسل فارس بلا جواد، وعلاقته بكتاب «اعترافات حافظ نجيب»، سنجد أن شخصية حافظ في المسلسل، تختلف اختلافا كبيرا عن حافظ نجيب في اعترافاته. فالمسلسل يظهر حافظ نجيب بطلا شعبيا وقوميا، نذر حياته لمقاومة الإنجليز، وإحباط المحاولات الصهيونية في المنطقة العربية، متخذا من التنكر والهروب الدائم وعلاقاته النسائية، وسائل للوصول إلى غايته الوطنية السامية.
ورغم أن هذا الوصف بعيدا كل البعد عن حافظ نجيب في اعترافاته، إلا أن عدة أسطر قليلة جاءت في هذه الاعترافات، تشير إشارة غامضة، بأن دورا وطنيا قام به حافظ نجيب في يوم ما، أثناء مرض الزعيم مصطفى كامل، واستمر هذا الدور لفترة قصيرة بعد وفاة الزعيم! وهذه الإشارة اليسيرة، كانت الأساس الذي بني عليه الدور الوطني لحافظ نجيب في المسلسل. وبسبب الشكوك المثارة حول وطنية حافظ نجيب، وتصادمها مع ما عرف عنه بالنصب والاحتيال، نتوقف قليلا هنا لنبين حقيقة هذه الإشكالية!
جاء في اعترافات حافظ نجيب، أنه ابتعد عن زوجته الكونتس سيجريس، فوجد نفسه ضائعا لا أمل له، فأدمن الخمر أملا في نسيانها، ونسيان كل ما يحيط به من ضياع. وعندما فشل، فكر في الرهبنة عام 1908 - رغم أنه مسلم! - قائلا: «استعرضت الماضي كله فكان سلسلة من أنواع الشقاء وألوان العذاب، وحددت حالي في المجتمع، فرأيته صورة لإنسان لا تربطه بالجماعة أية رابطة، من نوع ما بين الناس وبعضهم. ليس لي أهل، ولا أقارب، ولا أصدقاء، ولا عمل منظم، ولا عقل مركز، ولا هدف، ولا استقرار، ولا أمل. فما هي قيمة الحياة في نظر هذا الإنسان؟ وما هي الضرورة التي ترغمه على البقاء وسط الجماعة، معزولا عنها؟»
6
ورغم هذا الإحباط الواضح من كلماته المريرة، والتي توحي بأنه سيقدم على الانتحار لا محالة! نجده يقول: «عقدت العزم على دخول الدير والترهب. وعرضت الأمر على بعض الزملاء، المشتغلين بالسياسة من منشئي النهضة الوطنية، فحبذوا رأيي.»
7
وهذا القول يتناقض مع نفسية حافظ نجيب في هذا الوقت، عندما اعترف بعدم وجود أية رابطة بينه وبين المجتمع، ولا يوجد له أهل أو أقارب أو أصدقاء أو عمل أو عقل أو هدف ... إلخ! فكيف يعرض أمر ترهبه على رجال السياسة؟! ومن هم هؤلاء الرجال؟!
Página desconocida
نلاحظ أن قوله: «من منشئي النهضة الوطنية»، يقصد به رجال الحزب الوطني، وتحديدا يقصد الزعيمين محمد فريد ومصطفى كامل، رغم عدم تصريحه بالأسماء، ولكن فحوى كلامه دل على ذلك، عندما قال: «وقال أحدهم: «يجوز أن يكون الدير وسيلة لذهابك إلى الحبشة في منصب مطران الحبشة، وذلك البلد لا يزال مستقلا، ومنصب المطران هناك منصب عظيم جدا، واحترام الأحباش للجالس على كرسي المطرانية أعظم من إجلالهم للجالس على العرش.» وقال الثاني وهو على فراش مرضه الأخير: «وفي مقدور المطران المثقف ثقافة عالية أن ينشئ هناك جيشا يعلم ضباطه في النمسا أو ألمانيا، فيصير في مقدوره اغتصاب السودان وإنقاذ مصر من المحتلين.» وقال الأول: «هذا سر خطير ... فاحتفظ به لنفسك، ولا تيسر لأي صديق معرفته».»
8
ومن الواضح أن المتحدث الأول في الحوار السابق هو الزعيم محمد فريد، والمتحدث الآخر هو الزعيم مصطفى كامل، الذي كان على فراش مرضه الأخير في هذا الوقت، ولكن الغريب في الأمر، أن هذه الإشارة التي تدل على علاقة حافظ نجيب بهذين الزعيمين وعلاقته بالحزب الوطني، لم يكن لها أي تقديم أو تمهيد في الاعترافات قبل ذلك ، حيث إن هذه الإشارة جاءت عام 1908، والاعترافات تنتهي في عام 1909! وبالرغم من ذلك فنحن لا نملك أي دليل على هذه العلاقة، سوى ما جاء عنها في هذه الاعترافات.
ونعلم من الاعترافات أيضا، أن حافظ نجيب بعد هذه المقابلة، أصبح الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي، ثم الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وعندما مات مصطفى كامل في 10 / 2 / 1908، رثاه الراهب فيلوثاؤس أو حافظ نجيب بقصيدتين، تم نشرهما في جريدة الوطن، فنال الراهب شهرة واسعة كشاعر، فطلب مقابلته غبطة البطريرك في القاهرة، ولكن الراهب أو حافظ نجيب خشي أن ينكشف أمره، فلم يذهب إلى مقابلته، ولكنه ذهب إلى مكان آخر، قال عنه: «سافرت في صباح النهار الثاني إلى القاهرة، وإلى بيت المرحوم محمد بك فريد، بدلا من مقابلة البطريرك. واستاء المرحوم من قصدي إليه، وأنبني في غضب شديد، بسبب نشر المرثيتين في الصحف، وبسبب ما أحدثا من الضجة حول الراهب الشاعر، وقال: «لقد ذهبت إلى الدير لتختفي فيه وتعتزل العالم وقتا طويلا، لينساك الناس ولتصل من الدير إلى الهدف الذي تهدف إليه، فمن الحماقة التي لا تغتفر ما فعلت؛ لأنه أحدث ضجة تمنعك من البقاء في الدير».»
9
وهنا نجد الأمر يتطور بالنسبة إلى وطنية حافظ نجيب، حيث يشير الكلام السابق، أن الزعيم محمد فريد كان على علم بأن حافظ نجيب دخل الدير من أجل هدف معين، وهذا الهدف خطير وسري جدا! ولكن بكل أسف لم نعلم ما هو هذا الهدف، ولم يوضحه حافظ نجيب في اعترافاته، بل زاده غموضا مصحوبا بالتشويق، قائلا: «كنت أتصل بالجهة السياسية التي نصحت لي باللجوء إلى الدير بالمراسلة، أرسل كتبي بعنوان رجل مسيحي كاتب بمكتب إسماعيل الشيمي المحامي، وكانت الإجابات ترسل إلى وعليها توقيع عمتي المسيحية.»
10
وهذا الأمر يشير إلى أن حافظ نجيب كان يقوم بمهمة سياسية معينة، لصالح الحزب الوطني، بدليل هذه الرسائل المتبادلة، تلك الرسائل التي كانت تحمل أسرارا خطيرة وصفها حافظ في اعترافاته بأنها: «أسرار غاية في الخطورة؛ لأنها في الأيام الأخيرة كانت تلح علي بترك الدير والعودة إلى القاهرة لتنفيذ أغراض سياسية لتلك الجهة.»
11
وفي إشارة نادرة، وجدنا حافظ نجيب يسرد واقعة صريحة، تعامل فيها مع الزعيم محمد فريد، قائلا: «كانت الصحف القبطية تهاجم في عنف الأديرة القبطية بسبب خروجي من الدير، فصار اسم الراهب حديث الجميع. واستغل محمد بك فريد هذه الضجة فدفع لي مالا لأنفق منه لتحضير حفلة عشاء أدعو إليها جماعة من عظماء الطائفة القبطية ورئيس الحزب الوطني والشيخ عبد العزيز [جاويش]، فتمت الحفلة في فندق ناسيونال بتاريخ 2 ديسمبر 1908، ونجح محمد فريد في خطته، وبدأت علاقات ودية جديدة بين بعض إخواننا الأقباط المثقفين والحزب الوطني.»
Página desconocida
12
وعلى الرغم من صراحة هذه الإشارة، فيما يتعلق بالمال المدفوع من قبل محمد فريد، وعلاقته بحافظ نجيب، فإن الشك يحوط هذا الموضوع بصورة كبيرة! لأن حافظ نجيب ذكر هذه العلاقة فقط في اعترافاته عام 1946، ولكنه أنكرها ولم يأت بقصة هذا المال ولم يشر إلى علاقته بمحمد فريد، عندما ذكر تفاصيل هذا الموضوع لأول مرة عام 1924 في مجلة «العالمين»!
13
هذا هو كل ما جاء في اعترافات حافظ نجيب، بخصوص وطنيته وعلاقاته برجال الحزب الوطني! ومن الملاحظ أن هذه الأقوال اليسيرة - بالمقارنة بما في الاعترافات من أحداث - لا تقطع بأن دورا وطنيا قام به حافظ نجيب، كما أنها لا تدل مطلقا على هذا الدور، لما يحوطها من شك، ولخلوها من الأدلة المنطقية أو من ذكر الأسماء، أو من ذكر الوقائع والأحداث والمغامرات الخاصة بهذا الدور! وهذا أمر يثير الشك في هذا الدور وفي الاعترافات نفسها! لأن حافظ نجيب أسهب وأطنب وفصل في أحداث كثيرة، تتعلق بهروبه وتنكره وعلاقاته النسائية وحياته الخاصة ... إلخ، مع ذكر الأسماء الحقيقية والأماكن، ودل على أمور خطيرة بذكر أسماء أصحابها، وكان البعض منهم على قيد الحياة وقت نشر الاعترافات، بل وتحدى القارئ إذا فكر في تكذيبه.
فعلى سبيل المثال، نجده في الاعترافات يذكر قصة دخوله الدير، وتنكره في شخصيتي الراهب غبريال إبراهيم والراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس، ثم يذكر الأسماء الحقيقية للرهبان والقساوسة الذين تعامل معهم في هذه الفترة، مع ذكر وظائفهم ورتبهم الدينية وأماكن عملهم في هذا الوقت، وما استجد عليهم من تنقلات وترقيات في الوظائف والرتب الدينية التي تمت بعد ذلك.
14
ولعل القارئ يسأل: أليس من الممكن أن يكون حافظ نجيب، ذكر قصة الرهبنة التي تمت عام 1908، وهو آمن ومطمأن من صعوبة تكذيبه؛ لأنه كتبها وتم نشرها عام 1946، فإذا كان قد كتبها قبل ذلك بسنوات كثيرة، ربما وجد من يكذبه؟!
والحقيقة الغائبة أن حافظ نجيب - بالفعل - كتب قصة دخوله الدير، بكل تفاصيلها، ولأول مرة عام 1924 في مجلة «العالمين»!
15
قبل أن يذكرها بتفاصيل أحداثها الدقيقة في اعترافاته عام 1946! والأغرب من ذلك، أنه اختتمها بكلمة قال فيها: «هذه قصة وجودي في الدير وخروجي منه، وشهودها أحياء، القمص إيسيذورس لا يزال حيا يرزق وهو رئيس الدير الآن، ونيافة الأنبا باخوميوس وهو لا يزال أسقف الدير، والقس بطرس وهو الآن مطران أخميم، والقمص باخوم وعاذر أفندي جبران وبيومي أفندي الشناوي وكلهم أحياء، كذلك وكيل الدير تاضروس أفندي ميخائيل لا يزال حيا يرزق في منفلوط.»
Página desconocida
16
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا لم يذكر حافظ نجيب تفاصيل علاقته بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، ولماذا لم يوضح علاقته الحقيقية بالحزب الوطني، أو بالجهة السياسية التي نصحته بالتخفي في الدير، وما هي حقيقة المهام الخطيرة السياسية التي قام بها لصالح هذه الجهة؟! أسئلة كثيرة كان من الواجب على حافظ نجيب أن يجيب عليها في اعترافاته، إذا كان له دور وطني حقيقي؛ لأن هذا الدور إذا صحت حقيقته، لكان هو النقطة المضيئة في اعترافات حافظ وفي حياته بأكملها؛ حيث إن اعترافاته هي عبارة عن مجموعة من النقاط السوداء غير المشرفة لأي إنسان على وجه الأرض! وهذا يجعلنا نشك في هذا الدور الوطني، بل ونعلل وجوده في الاعترافات بهذه الضبابية، إلى أنه دور وطني مقحم على الاعترافات، لم يكتبه حافظ نجيب بقلمه، بل أقحم على اعترافاته بعد موته!
أما إذا أردنا أن نتعرف على حافظ نجيب كما جاء في اعترافاته - بعيدا عن إشارات وطنيته المشكوك فيها - سنجده إنسانا جاحدا لأهله، ضائعا لا هدف له، يسعى وراء غريزته الحيوانية، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، ويشرب الخمر ليل نهار، ويرتاد الملاهي والحانات، ويقيم علاقات آثمة بالراقصات ويرتكب الموبقات، ويفاخر بإنكار العقيدة والدين ويجاهر بالكفر، ويعترف بالزنى! وبالرغم من ذلك كله نجده ينفي عن نفسه تهمة النصب والاحتيال، ويدافع عن نفسه ضد هذا الاتهام دفاع المستميت، وكأن جريمة النصب والاحتيال أهم وأكبر من ارتكابه للكبائر!
ولعل هاتين الصورتين، هما الصورتان الوحيدتان المعروفتان عن حافظ نجيب، رغم ما يحيطهما من شك وجدل! فإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الوطني الثائر كما جاءت في المسلسل، وإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الزنديق كما جاءت في الاعترافات! ولكن هناك صورة ثالثة غائبة ومجهولة، لم يطلع عليها القارئ إلا في إشارات يسيرة، وهي صورة حافظ نجيب الأديب! ولعلها الصورة الحقيقية والواقعية، والتي لا تقبل الشك أو الإنكار؛ حيث إن وثائقها وآثارها وأدلتها موجودة بين أيدينا!
وإذا كنا لا نستطيع أن نضيف جديدا على صورة حافظ نجيب كما جاءت في المسلسل، لعدة أسباب، منها؛ أولا: أن معظم القراء تابعوا المسلسل، بسبب الضجة التي أثيرت حوله. ثانيا: أن المسلسل لم يلتزم بالأحداث التي جاءت في الاعترافات التزاما حرفيا، بل تصرف فيها تصرفا فنيا من الصعب علينا محاسبته في ذلك، تبعا لرؤيته الفنية والسياسية. ثالثا: أن أهداف المسلسل الفنية والسياسية أقيمت على إشارة غامضة عن وطنية ضبابية لحافظ نجيب. وبناء على ذلك لم يبق أمامنا إلا الحديث عن حافظ نجيب وصورته من خلال اعترافاته وما ينتاب هذه الاعترافات من شكوك، وأخيرا الحديث عن صورة حافظ نجيب الأديب!
اعترافات حافظ نجيب
يحكي حافظ نجيب في اعترافاته قصة حياته منذ مولده وحتى عام 1909. وتبدأ الاعترافات بقصة خطف الباشا التركي للطفل محمد ابن التاجر حسن السداوي، الذي أطلق عليه اسم «محمد نجيب»، وعلمه حتى أصبح ضابطا، فألحق بحرس الخديو إسماعيل، ثم تزوج من ابنة الباشا «ملك هانم». وفي يوم ما أثار محمد غضب زوجة الباشا عليه، فطردته من القصر، وقامت بتعذيب ابنتها ملك هانم، التي أنجبت الطفل «حافظ نجيب»، ثم ماتت من شدة التعذيب، فتبعها والدها الباشا، وتم دفنهما في يوم واحد. وبعد أيام قليلة أخذ محمد نجيب ابنه من جدته التركية، رغما عنها، ومن ثم تركت الجدة مصر إلى الأستانة، وانقطعت أخبارها.
عاش الطفل حافظ في بيت جده لأبيه، وسط أطفال العائلة، حانقا عليهم متمنيا العودة إلى رغد العيش في قصر جدته التركية، ولكنه أسلم أمره للظروف المفروضة عليه، فتم تعليمه في أحد المكاتب (الكتاتيب)، ثم التحق بمدرسة القربية، وأخذ يتنقل بين بيت أبيه في طهطا وبين بيت عمه في أسيوط، وبالتالي انتقل إلى مدرسة الفرير بطهطا حتى حصل على الابتدائية عام 1892، فالتحق بالمدرسة الخديوية ولكنه لم يفلح بها، فانتقل إلى مدرسة رأس التين، ومن ثم التحق بالمدرسة الحربية. وفي هذه الفترة نشأت علاقة بينه وبين إحدى الراقصات.
وقبل إتمام حافظ دراسته، أقامت المدرسة الحربية مباراة في الرماية بالبندقية والمسدس، ففاز حافظ نجيب بالمركز الأول، وقامت الأميرة الروسية فيزنسكي بتسليمه الجائزة، بعد أن أعجبت به، فنشأت بينهما علاقة آثمة دامت سنوات طويلة. وفي هذه الفترة ساعدته الأميرة على السفر إلى الأستانة وألحقته بالجيش التركي، ثم أرسلته لإتمام الدراسة في كلية سان سير بفرنسا، حتى التحق بإحدى الفرق الفرنسية في الجزائر. وبعد عام عمل حافظ جاسوسا لفرنسا على ألمانيا بعد أن تنكر في شخصية خادم أخرس، فتم كشف أمره في أول مهمة له وأودع السجن، فقامت فرنسا بتهريبه من ألمانيا إلى مصر.
وبعد عودته، ساعدته الأميرة فيزنسكي بالمال، فأصبح يضارب في البورصة، وفتح مكتبا للقومسيون، واشترى سيارة وبيتا وإسطبلا للخيول، بالإضافة إلى شرائه مدرسة الفرير وعمارة كورونيل، مع امتلاكه لرصيد وافر في البنوك، حيث تزين بالبرلنت والزمرد والياقوت، ووضع اللؤلؤ بدلا من الأزرار في قميصه! وهكذا بدأ في ارتياد المقاهي والبارات والكباريهات، ومجالسة الحسناوات والراقصات والساقطات.
Página desconocida
وفي أثناء ذلك، كان يداوم على اتصاله الآثم بالأميرة فيزنسكي في الإسكندرية، وفي إحدى زياراته لها، شاهد عندها السيدة ألكسندرا أفيرينو
1
صاحبة مجلة «أنيس الجلس»، فتعرف عليها وتوطدت صداقتهما في عام 1905، حيث أرسلت له صندوقا به نياشينها كي ينظفها عند الجواهرجي لاتنس، ولكنه احتفظ بالصندوق في دولاب الراقصة حميدة، التي أخذت منه نيشان السلطان عبد الحميد، وارتدته أمام الجمهور في أثناء رقصاتها المتعددة. ووصلت أخبار مجون حافظ ونزواته وعلاقاته النسائية إلى أسماع الأميرة فيزنسكي، فأرادت الانتقام منه، فحرضت ألكسندرا أفيرينو كي تتهمه بتبديد نيشانها، وبالفعل حدث هذا وتم القبض على حافظ نجيب، وأودع سجن الحضرة بالإسكندرية.
وبعد أن قضى حافظ مدة العقوبة، خرج من السجن ليجد قضيتين في انتظاره من تلفيق الأميرة فيزنسكي، ومن ثم عاد حافظ إلى السجن مرة أخرى. وبعد قضائه مدة العقوبة الثانية، خرج مفلسا معدما، فكتب رواية تمثيلية مثلتها إحدى الجمعيات على مسرح إسكندر فرح، فكسب منها بعض المال، ثم تعرف على فرنسين اليهودية التي ساعدته بالمال أيضا، ثم تعرض إلى حادث اغتيال نجا منه بأعجوبة، وعلم أن القاتل مأجور من الأميرة فيزنسكي. وبعد أيام تم القبض عليه بتهمة الاحتيال على أحد المحال التجارية، والنصب على إحدى الراقصات وسرقة سوارها الذهبي، وجاء شاهد زور في المحكمة مدفوعا من قبل فيزنسكي، وأدلى بشهادة كاذبة بأنه كان حاضرا في الوقعتين، فتم سجن حافظ نجيب للمرة الثالثة، ولكنه قرر الهرب من السجن.
ساعدته اليهودية فرنسين في الهرب أثناء انتقاله من السجن إلى نيابة شبرا، واختفى في أحد البيوت بالظاهر، وتنكر في شخص رجل يهودي بدين، وقام بمغامرة مع رئيس البوليس السري المسيو كارتييه لتأمين مسكنه بالظاهر. وفي أحد الأيام قرأ حافظ في الصحف اتهاما له بتهمة الاحتيال على رجل يهودي سرق ساعته، وأن التحقيق تم، وأحيلت القضية إلى قاضي الجنايات، فأصدر الحكم بسجن حافظ نجيب لمدة ثلاث سنوات غيابيا. وبمرور الوقت تأكد حافظ بأن هذه التهمة لفقتها أيضا الأميرة فيزنسكي، فقرر ترك اسم حافظ نجيب، والتنكر في أكثر من شخصية، هربا من مطاردة البوليس وتنفيذ الأحكام، ولكي ينقذ البقية الباقية من سنوات عمره.
تنكر حافظ في شخصية عم دؤدؤ بائع الفشار والحلوى ولعب الأطفال، فعرفه كارتييه رئيس البوليس السري وطارده في الشوارع والأزقة، حتى دخل حافظ في حمام بلدي للنساء، وهرب من بابه الخلفي، وعندما دخل كارتييه وجنوده، انهالت عليهم النساء ضربا. ثم تنكر حافظ مرة أخرى في شخصية مبروك الخادم، وعمل عدة أشهر لدى رئيس النيابة الذي يحقق في قضايا حافظ نجيب، وأخذ منه شهادة خطية بحسن سيره وسلوكه. وفي عام 1913 سلم حافظ نجيب نفسه، وفي المحكمة وأمام اتهامات رئيس النيابة بسوء سلوكه، كشف المتهم حافظ نجيب عن شخصيته الأخرى، وهي مبروك الخادم، فأحرج رئيس النيابة أمام القاضي، خصوصا عندما قدم للقاضي شهادة حسن سيره وسلوكه المكتوبة بخط يد رئيس النيابة. وتم الحكم بسجن حافظ، ولكنه كالعادة هرب من السجن.
بعد ذلك تنكر حافظ في شخصية المسيو بنفيه، وصناعته التجارة والوساطة بين مصانع أوروبا ومكتب قومسيون مدام فرنسين اليهودية، ثم تنكر في شخصية البارون دي ماسون، الرجل الثري اليهودي هاوي الآثار، فتعرف على الأرملة الكونتس سيجريس، ورافقها في رحلتها السياحية، فأعجب بها وحماها من نظرات الطامعين في جمالها، خصوصا سرحان باشا، الذي دعاها بصحبة البارون أو حافظ نجيب إلى إحدى حفلاته. وفي هذه الحفلة تحدى البارون الباشا، وبعد عدة مغامرات مع التلاعب بالألفاظ والعبارات، حضر البوليس لأن البارون وعد الكونتس بأن حافظ نجيب سيحضر لمقابلتها في هذه الحفلة. وبالفعل يكشف البارون عن نفسه، ويعترف أمام الجميع، بعد أن تخلص من تنكره، بأنه حافظ نجيب الهارب من عدة أحكام. ويسلم نفسه طواعية للبوليس، بعد أن أعلن أمام الجميع بأنه سيقابل الكونتس سيجريس غدا في جزيرة بالاس أوتيل لشرب الشاي.
وأمام هذا التحدي، قام البوليس بوضع حافظ نجيب في زنزانة شديدة الحراسة، وفي صباح اليوم التالي لم يجدوه في الزنزانة ... وعلى الفور ذهبوا إلى موعد الكونتس سيجريس، فوجدوها بصحبة نخبة من رجال المجتمع، ولم يحضر حافظ لمقابلتها كما وعد. ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب هرب بالفعل وقابل سيجريس لأنه كان موجودا ضمن ضيوفها باسم المسيو بنفيه. وبعد أن علمت سيجريس بقدرة حافظ في الهرب والتنكر، زاد إعجابها به، فطلب منها الزواج، ولكنها رفضت بحجة أن حافظ نجيب طريد العدالة، فأخذ منها وعدا بأنه سينهي هذه الإشكالية بشرط أن تحافظ على وعدها له بالزواج، فوافقت.
غاب حافظ نجيب فترة من الزمن تنكر فيها في شخصية الشيخ صالح عبد الجواد، ثم قام بمحاولة جنونية ساعده فيها صديقه خليل حداد. وتتلخص هذه المحاولة في شربه لدواء معين يظهره بمظهر الميت، ومن ثم تم الإعلان عن موت الشيخ صالح، وفي الوقت نفسه قام خليل حداد بإبلاغ البوليس أن الشيخ صالح المتوفى هو حافظ نجيب. وعندما حضر البوليس وتأكد من موت حافظ، صرح بدفنه وأغلقت جميع القضايا المنسوبة إليه. وفي المساء تم دفن حافظ في قبره، وبعد عدة ساعات زال مفعول الدواء، فتنبه حافظ من نومه، وخرج من القبر وعاش بين القوم باسم بنفيه، وتم زواجه من الكونتس سيجريس، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا.
أدمن حافظ الخمر فترة من الوقت، وعاش في ضياع ويأس، حتى قرر أن يترهب. فشجعه البعض على هذا الأمر، وظهر حافظ نجيب عام 1908، في شخصية الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي، ثم ظهر باسم الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وظل حافظ في الرهبنة لمدة عام، ومن ثم ترك الدير وتعرف في فندق ناسيونال عام 1909 على بارون سويدي يدعى ماير، وكان مريضا، وبعد أيام قليلة يموت البارون متأثرا بمرضه، فينتحل حافظ شخصيته واسمه الحقيقي وهو شنيدر، ونزل بهذا الاسم في فندق مينا هاوس. وبعد أيام قليلة لعبت الخمر برأس خليل حداد، فثرثر مع أحد الصحفيين، وكشف عن شخصية حافظ نجيب وأنه من نزلاء الفندق، فأبلغ الصحفي البوليس الذي حضر وحاصر المتهم حافظ، ولكن حافظ نجيب استطاع الهرب كعادته. وإلى هنا تنتهي الاعترافات.
Página desconocida
هذه هي النقاط الرئيسية التي تدور حولها اعترافات حافظ نجيب، ومن خلال تفاصيل هذه النقاط، نستطيع أن نظهر بعض صفات شخصية حافظ بصورة قريبة بعض الشيء، رغم ما يحيط هذه الاعترافات من شكوك، سنبين عنها في موضعها.
أول صفة نستطيع أن نضع أيدينا عليها، أن حافظ نجيب جاحد لأهله، رافض لمعيشتهم، فعلى سبيل المثال، نجده يقول عن والده: «والدي الذي سبب ما ذاقته أمي من عذاب وما لقيته أنا من هوان في بيت الجدين، وكان أيضا السبب في طردي أخيرا من النعيم الذي كنا فيه، ثم في عذاب الجحيم الذي تولاني في بيت والده الحاج حسن السداوي ... رحم الله الجميع ... وسامحهم ... وغفر لهم.»
2
ومن خلال الاعترافات، نجد أن حافظ نجيب كاذب في هذه الاتهامات! فوالده لم يكن السبب في عذاب والدته؛ لأن من عذبها هي جدته التركية. وإذا كانت الجدة عذبت ابنتها انتقاما من زوجها - والد حافظ - فالذنب يعود عليها، لا على زوج ابنتها. وإذا كان حافظ وجد بعض الهوان في حياته بعد ذلك، فهذا الهوان كان بسبب تصرفات حافظ، وبسبب الظروف المعيشية المتواضعة، تبعا للظروف الاجتماعية المحيطة بالأسرة. أي أن والده لم يكن السبب المباشر في هذا الهوان.
أما طرد حافظ من قصر الباشا التركي، فلم يكن لوالده يد فيه؛ لأن الوالد طالب بحضانة ابنه، وهو التصرف السليم الواجب على كل أب. وكان من الممكن قبول كلام حافظ نجيب هذا في اعترافاته، إذا كان قاله بنفسية الطفل وقتما حدثت هذه الأمور ... ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب سرد هذه الأحداث، وأدلى برأيه في والده وهو في سن كبير وقبل أن يموت، أي وهو يدرك كل كلمة وأنه قصد هذه الاتهامات ومصر عليها، بدليل أنه يطلب من الله أن يرحمهم ويسامحهم ويغفر لهم!
هذا بالإضافة إلى أن حافظ نجيب كثيرا ما كان يتحامل على والده، وعندما يذكره يقول في بعض الأحيان: «الضابط» بدلا من كلمة «والدي»! بل ويجحد أسرة أبيه جحودا شديدا، عندما عقد مقارنة بينها وبين أسرة البستاني (الخادم) في قصر الباشا التركي، قائلا: «لم تكن هذه الجماعة في المستوى الخلقي لكل من عاشرت في سراي الباشا، حتى زوجة البستاني وصغارها، فهؤلاء كانوا أوضح وأحسن خلقا وأعظم اعتصاما في التصرفات .»
3
وفي موضع آخر نجد حافظ نجيب، يلصق بجده لأبيه صفة الجشع المادي، وينفي عنه عطفه على أحفاده، ويصف بيت هذا الجد بالقذارة! وفي ذلك يقول: «جدي الحاج حسن لم يكن راضيا عن وجودي بعيدا عن بيته، وكان يسعى في إصرار لنقلي إلى رعايته لا بتأثير العطف علي أو الرغبة في العناية بي إنما للحصول على ال 150 قرشا التي ترسل للدادة من والدي في كل شهر، وعاونت زوج أبي «جميلة هانم» ذلك الجد لتحقيق رغبته، فأطاع والدي مشورتها وأمر بنقلي إلى منزل جدي فاختل نظام حياتي من جديد، وعدت إلى اللعب حافيا وإلى القذارة العامة في ذلك البيت.»
4
وعندما قدمت الأميرة فيزنسكي يد المساعدة إلى حافظ، نجده يقارن بين مساعدتها وبين قسوة والده قائلا: «أسلمت أمري لهذه السيدة التي تظهر العطف علي والاهتمام بمستقبلي، بينما أجد من والدي القسوة والنفور من وقوع نظره علي، وهو الذي انتزعني من أحضان جدتي، وكان سببا في تعذيب المرحومة والدتي، وأهان جدتي وحملها على ترك مصر كلها والرحيل إلى تركيا نهائيا، ثم قسا علي وقصر في تأدية واجب الوالد حتى أتمم الدراسة العالمية [أظنها العالية] أولا، ثم الدراسة العسكرية.»
Página desconocida
5
وفي هذا القول، نجد حافظ نجيب يعيد مشاعره الجاحدة ضد والده، ويكرر اتهاماته السابقة، ويضيف عليها اتهامات جديدة! فمن غير المعقول أن يقسو والد لمجرد وقوع نظره على ابنه! علما بأن والد حافظ لم يكن السبب في رحيل الجدة التركية من مصر، ولم يقصر في إتمام دراسة ابنه، بل إن الابن هو المقصر في ذلك! وهذه الاتهامات الكاذبة غير بعيدة عن سلوكيات حافظ نجيب، حيث إنه كذب عندما اتهم عمه باتهامات غير صحيحة، واعترف بذلك في اعترافاته قائلا: «وقد شكوت لوالدي من المعاملة التي ألقاها في بيت عمي، ولكنني كنت كاذبا في كل ما شكوت منه؛ لأن عمي كانت له أخلاق رضية كريمة، وكان منزها عن كل عيب ينسب إلى الأخلاق أو الرجولة أو العقل أو الوصف كرب أسرة هادئة تعيش في اطمئنان وهناء.»
6
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا كان حافظ نجيب جاحدا لأهله ناكرا لهم؟! سنجد الإجابة تتمثل في كلمة واحدة، وهي «الفقر»، فحافظ نجيب عندما خرج من قصر جده لأمه «الباشا التركي»، إلى جده لأبيه «حسن السداوي» في الدراسة، فقد خرج من نعيم الثراء إلى حرمان الفقر! ولأن حافظ نجيب لم يكن مؤهلا لتحمل المسئولية، ولم يكن مستقيما في سلوكياته، ولم يكن سويا في تفكيره، نجده يبحث عن المال ليعوض به حرمان الفقر، بكل وسيلة ممكنة، مهما كانت عواقب هذه الوسيلة! فبدلا من أن يجتهد الطالب حافظ في استذكار دروسه، حتى يحصل على شهادة يحقق بها مستقبلا زاهرا يبعده عن الفقر، نجده وهو في المدرسة الخديوية، يبيع كتبه الدراسية واحدا بعد الآخر من أجل إمتاع نفسه!
7
ثم نجده بعد ذلك، يتهم والده بأنه قصر في تعليمه!
ومظاهر الحرمان التي ذكرها حافظ في اعترافاته، تمثلت في مرحلة دراسته الثانوية - على وجه الخصوص - ومنها عدم مبارحته المدرسة أيام العطلة الأسبوعية لعدم وجود المال، كما أنه كان الطالب الوحيد الذي يعود إلى المدرسة دون أن يقوم أهله بتزويده بأنواع الأطعمة الشهية، وبسبب فقره كان يبتعد عن زملائه.
8
ومن الغريب أن هذه الأسباب كان من الممكن أن تكون دافعا قويا لتفوقه وتقويم سلوكه إلى الأفضل! بدلا من أن يتهم والده بأنه قصر في رعايته ودراسته، رغم أنه يعلم حقيقة فقر والده، والتي تتمثل في ضآلة راتبه، وفي ذلك يقول: «كانت ضآلة مرتب الرجل [يقصد والده] تجعله عاجزا عن الإنفاق علي واستكمال حاجاتي الضرورية، فقضيت طول زمن الدراسة في عسر وضيق.»
9
Página desconocida
ورغم هذا السبب الخارج عن إرادة الوالد، نجد الابن يجحد والده، وينكره ولا يذكره باسمه أو بصفته كوالد، بل يذكره بكلمة «الرجل»!
ومن الصفات السيئة عند حافظ نجيب، كما جاء في اعترافاته، أنه كان يتمنى أن يكون غنيا، حتى يقتطف ثمار الملذات الآثمة! وكمثال على ذلك، نجده يقول وهو طالب في المدرسة الحربية، عندما تحدث عن الراقصة «ن»، التي كانت تثير غرائز الطلاب: «ونجحت حيلة المرأة فجذبت إلى دارها جميع طلبة المدرسة الحربية ما عدا السودانيين، وعدا مصري واحد. هو أنا ... لم يكن الباعث الذي عطلني على الاشتهاء والطلب هو المناعة الخلقية، أو التعفف بسبب التحصن بالأدب، إنما كان الباعث الأساسي المفرد هو الفقر.»
10
وعندما زال الفقر، وجاء المال والجاه إلى حافظ نجيب، وجدناه يقتحم حصن الملذات الآثمة بكل قوة، ويعترف بأنه اعتاد على ذلك، وبالأخص مع الأميرة فيزنسكي التي أعطته المال والجاه! وفي ذلك يقول: «كنا في حفلة ساهرة في قصر أرملة من الطبقة الراقية، وكنت في ثوبي العسكري واضح الشباب والقوة، ولست أدري كيف انصرفت عقب انتهاء السهرة من تلك الدار؛ لأنني استيقظت في الصباح فوجدت نفسي في غرفة نوم البرنسيس ... أدركت من تلك الليلة المشئومة نوع رغبتها فلم أتردد في الخضوع والطاعة، في حياء في بادئ الأمر ثم في جرأة المعتاد الراغب في الإرضاء.»
11
والملاحظ على هذا القول، أن حافظ نجيب يلصق تهمة السقوط الآثم على عاتق الأميرة، وينفيها عنه في بادئ الأمر، ونسي أنه قبل ذلك اعترف بأن الفقر هو السبب الرئيسي الذي منعه من ارتكاب الكبائر! فكيف نقبل أن الأميرة الروسية زوجة الرجل السياسي، هي التي جعلته يغيب عن وعيه، حتى يستيقظ في الصباح فيجد نفسه في سرير نومها، بعد أن ارتكب معها الإثم المحرم!
وهذا يعني أن حافظ نجيب، يحاول أن يقنعنا بأن سقوطه في الآثام، لم يكن برغبته، بل كان مرغما عليه من قبل الأميرة! وإذا اقتنعنا بذلك، فماذا نقول أمام اعتراف آخر له، قال فيه عن الأميرة فيزنسكي أيضا: «ورغم حياة الشطط والسفه كنت أحتفظ بالنظام المفروض على علاقتي بالأميرة فيزنسكي، أقابلها كل أسبوع في الإسكندرية وتقابلني في القاهرة. ولكنني كنت أشعر بانقباض الصدر في تلك المقابلات الطويلة بسبب ظهور الهرم على المرأة، وبسبب ملذات اللهو التي ألفتها وانحصرت فيها رغباتي.»
12
وهذا يعني أن الأميرة لم ترغمه على ارتكاب الآثام، كما حاول أن يوهمنا؛ لأنه هو أصلا غارق في الملذات الآثمة مع غيرها من النساء، وأن كبر السن كان السبب المباشر لابتعاده عن الأميرة، والتمتع بغيرها من صاحبات الجمال والأنوثة والشباب!
وعن هذا الأمر يقول - بعد أن هجر الأميرة وساءت العلاقة بينهما، بسبب علمها بسهراته ونزواته من النساء: «اعتبرتني البرنسيس خائنا لأنني تناسيت عطفها علي ورفقها بي ومعاونتها بالمال لتعليمي وتثقيفي ثم لتكويني في الحياة، ظنت أنها لهذه الأسباب القوية قد اشترتني وصرت ملكا خاصا لها، ولكنها نسيت أنني في طور الشباب، وأنها وصلت إلى الكهولة، ولم أنكر في أي وقت أفضال تلك السيدة ولا ما غمرتني به من أنواع الإحسان. ولكن الاحتفاظ بالمعروف لا يؤدي إطلاقا إلى حال تمنع العين من رؤية المحاسن ولا من التأثير بالجاذبية، ولا من الانطلاق مع الهوى، فدفعني نزق الشباب إلى كل ناحية ظننت فيها متعة للنفس واستجابة لنداء الغريزة.»
Página desconocida
13
وكان من الممكن لقارئ «اعترافات حافظ نجيب»، أن يقتنع بوجهة نظره، وأن الأميرة فيزنسكي هي التي دفعته إلى السقوط، إذا كانت آثامه انحصرت في شخصية الأميرة وحدها! ولكن الحقيقة أن «اعترافات حافظ نجيب»، هي مجموعة من غرامياته النسائية، مصحوبة بباقة من آثامه المتنوعة! فعلى سبيل المثال، نجده يقيم علاقة مع الراقصة المشهورة «شفيقة القبطية»، ولكنه يسأم منها ومن إطالة علاقته بها، فيهجرها إلى راقصة أخرى، هي حميدة. وعن هذا الأمر يقول عن شفيقة: «الحقيقة إنني لم أتأثر إطلاقا بأنوثة هذه المرأة ولا بخلاعتها، وكنت أعرف يقينا أنها تمثل دور عاشقة في الظاهر ودور سلابة في الواقع، وكنت أدفع ثمن التسلية في هذا الجو المضطرب؛ لأن لكل شيء من الرغبات ثمنه، فكذلك التسلية. لم تدم طبعا هذه الحال لأن النفس تسأم الاستمرار على وتيرة واحدة لا تبدل فيها ولا جديد عليها، فتحول الملل إلى رغبة في التجديد وإلى دور جديدة للغناء والرقص للبحث عن وجه جديد.»
14
ولم يكتف حافظ بالأميرة فيزنسكي ولا بالراقصة شفيقة، بل وجدناه يفصل علاقاته النسائية الأخرى تفصيلا شديدا، متمتعا بسردها وشرحها وتحليلها! ومن هذه العلاقات علاقته بالراقصة حميدة، وباليهودية فرنسين، وبالراقصة منتهى الأمريكية، وبألكسندرا أفيرينو، وبإحدى الفتيات اليونانيات، وهذه العلاقات لم تسلم من اعتراف صريح من حافظ بأنه ارتكب فيها الآثام الشهوانية! حتى المرأة الوحيدة التي تزوجها في اعترافاته - وهي الكونتس سيجريس - لم تسلم من تلميحاته الشهوانية!
15
فعلى سبيل المثال، نجده يقول عن الراقصة منتهى الأمريكية في قهوة إلياس: «حان وقت انصراف الجمهور وإغلاق القهوة فألحت علي منتهى لنتم السهرة في بيتها فقبلت. نهضت من الفراش في النهار الثاني وعزمت على الانصراف فوضعت على المنضدة شيئا من النقود أجرة المبيت.»
16
ومن الغريب أن حافظ نجيب يرتكب هذه الآثام، دون أن يشعر بلحظة تأنيب ضمير واحدة، ودون أن يندم على ارتكابها، وكأنها ليست من المحرمات! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما هو موقف حافظ نجيب من الدين؟! وما هي عقيدته الحقيقية، حيث إنه تنكر في شخصية راهب، ومكث في الدير عاما؟! والإجابة على هذا السؤال، جاءت على لسان حافظ نجيب نفسه، عندما قال في اعترافاته: «أنا رجل بدون عقيدة وبدون دين، لم تؤثر في الوراثة؛ لأنني لم أنشأ نشأة منظمة، في حياة عائلية تكون أبناءها بالتربية، وتكون سلوكهم بتأثير العادات والتقاليد. ولم تعلمني المدرسة تعليما دينيا يثبت في عقيدة ويكون لي مبدأ ... واضطراب حياتي وجميع ظروفي على ظهر الأرض لم تسنح فيها فرصة تحدوني إلى الاطلاع على كتاب ديني ... وأنا كسائر الخلق في هذا المجتمع لم يطرأ علي الباعث الذي يرغمني على التفكير في العقيدة والدين.»
17
وإذا انتقلنا إلى صورة أخرى من صور حافظ نجيب، كما جاءت في اعترافاته، سنجده رجلا ذكيا، ماهرا في التنكر
Página desconocida
18
وابتداع الحيل المختلفة، ومبتكر الأساليب المتنوعة في التخفي والهروب! فاستحق الألقاب العديدة التي خلعت عليه، مثل: نابغة المحتالين ... أرسين لوبين المصري ... الثعلب! وهذه هي الصورة التي جعلت من اسم «حافظ نجيب»، اسما مشهورا كان حديث الناس في أوائل القرن العشرين!
إذن ... الكذب والخروج عن الصواب، وعدم تحمل تبعات الأخطاء، بل وعدم الاعتراف بها، كانت الصفات التي لازمت حافظ نجيب منذ الصغر! وهذه الصفات كانت توقعه دائما في مآزق شتى، فكان يخرج منها عن طريق الحيل المختلفة ! فعلى سبيل المثال، نجده وهو طفل يهرب من المدرسة من أجل اللعب مع الأطفال، فيقابله جده لأبيه في الطريق فيمسكه ويسأله عن سبب تواجده في الشارع، رغم أنه من المفروض أن يكون في المدرسة؟! فنجد الطفل ينجح - في بادئ الأمر - في إيهام الجد بأنه طفل آخر غير الطفل حافظ! وفي ذلك يقول: «فهيأ لي الخبث أن أضلل ذلك الشيخ بصورة تبعثه على الشك في شخصيتي، خطرت لي الفكرة في سرعة ونفذتها بجرأة. صرخت في وجه جدي قلت له: «ما لك يا عم! عاوز مني إيه؟»»
19
فتجمع المارة ظنا منهم أن الجد رجل شرير يريد خطف الطفل، فقرروا تسليمه إلى البوليس. وعبثا حاول الجد إفهامهم الحقيقة، بسبب قدرة الطفل في تمثيل دوره، حتى حسم الأمر أحد المارة ممن يعرفون الطفل وجده، فتعجب المتجمعون من حيلة هذا الطفل!
وعندما كان حافظ في المدرسة عند عمه بأسيوط، أراد أن يعود إلى والده في طهطا من أجل اللعب مع أصدقائه، فهرب من منزل عمه عن طريق السير على قضبان السكة الحديدية، وعندما نجح في هروبه ضربه والده، فلم يجد حيلة للخروج من هذا المأزق إلا الكذب على أبيه، حيث اشتكى من عمه ومعاملته السيئة له، ثم نجده يعترف بأنه كذب في كل ما قاله عن هذا العم، كما مر بنا!
هذا فيما يختص بحيل حافظ نجيب عندما كان طفلا. أما أسلوبه في التنكر، فقد كانت له بداية طفولية أيضا! وكانت هذه البداية في قليوب، عندما كان يسبح في الترعة مع الأطفال، وكان والده ينهاه عن ذلك كثيرا، ولكنه لم يستمع لنصائح والده، حتى حدثت واقعة، قال عنها في اعترافاته: «حدث مرة أنني كنت أسبح في الترعة فرأيت والدي آتيا على جسرها من ضبط واقعة، كان على جواد وخلفه اثنان من العساكر، ففزعت وخشيت من غضبه، فهداني الخوف إلى خاطر سريع يسترني منه فنفذته بسرعة، دهنت جسمي كله ووجهي بالطين، ووقفت مع بعض الصبيان على جسر الترعة نلعب ونجري، فمر بنا حضرة المعاون وسمعته يقول لأحد الجنديين: «أهو الشقي حافظ بيعمل زي دول» فحماني هذا التنكر من العلقة التي كانت محتملة لو رآني.»
20
وعندما أصبح حافظ شابا، ساعدته الظروف على صقل هذه المواهب، خصوصا عندما عمل جاسوسا على ألمانيا لصالح فرنسا! ومن المؤكد أن المخابرات الفرنسية دربته تدريبا متقدما، حتى يصبح جاسوسا تعتمد عليه. وعلى الرغم من كشف أمره في أول مهمة تجسسية قام بها، إلا أن قدرته في تمثيل دور خادم أخرس في هذه المهمة،
21
Página desconocida
يعكس لنا قدرته الفائقة في التمثيل والتحكم في النفس!
خرج حافظ من تجربة الجاسوسية بإمكانيات متقدمة في فنون الحيل والتنكر، استخدمها فيما بعد في تصرفاته العملية، وفي الإيقاع بالنساء! فعندما رأى ألكسندرا أفيرينو احتال عليها حتى أعجبت به ووثقت فيه، وسلمته صندوق نياشينها. وعندما أضاع أحد هذه النياشين أبلغت عنه البوليس - بإيعاز من فيزنسكي - فتم القبض عليه وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وفي الاستئناف تم تخفيف الحكم إلى ستة أشهر، قضاها في سجن الحضرة بالإسكندرية، فكانت هذه أول مرة يسجن فيها حافظ نجيب.
22
وعندما خرج حافظ من السجن، لفقت له فيزنسكي قضيتين، الأولى تمثلت في أنه قضى ليلة حمراء في أحد بيوت الدعارة، وأكل وشرب الخمر، وفي الصباح هرب من البيت دون أن يدفع ثمن ملذاته! والأخرى تمثلت في أنه ركب حنطورا وعطله لساعات طويلة دون أن يدفع للعربجي أجرته، فتم القبض عليه على ذمة القضيتين. ويستكمل حافظ - في اعترافاته - هذه القصة قائلا: «وأرسلت في الصباح إلى النيابة فحولتني إلى سجن الحضرة من جديد، وصدر حكمان في القضيتين بأمر حبس احتياطي، ولما تحددت جلسة المحاكمة صدر الحكم بحبسي سنة ونصف، وأيد الاستئناف الحكم الابتدائي فقضيت العقوبة في السجن.»
23
ومن الملاحظ هنا، أن حافظ نجيب حاول بكل جهده نفي تهمة النصب والاحتيال عن نفسه، خصوصا فيما يتعلق بنيشان ألكسندرا أفيرينو، متهما الراقصة حميدة بأنها السارقة، وأن سجنه كان بسبب فيزنسكي، وكأنه بريء من الموضوع برمته! فهل يعقل أن حافظ نجيب - بكل ما لديه من مهارة في الحيلة والتنكر والهرب، وقدراته المكتسبة من عمله كجاسوس - يقع في مثل هذه القضية! وإذا كان بريئا حقا، فكيف يتم تجريمه في الحكم الابتدائي والاستئناف أيضا؟! وإذا اقتنعنا ببراءته، فكيف نصدق أنه بريء من تهمتي النصب والاحتيال على امرأة بيت الدعارة وعلى العربجي! فهل من المعقول أن يكون بريئا، ويتم الحكم عليه والتصديق على الحكم في الاستئناف أيضا؟!
ونقطة أخرى في غاية الأهمية؛ كيف يتم سجن حافظ نجيب لمدة ستة أشهر، في تهمة تبديد نيشان لإحدى الأميرات، ثم نجده يسجن سنة ونصف في جريمتي نصب واحتيال على امرأة لعوب وعلى عربجي؟! فمن المؤكد أن الجريمة كانت أكبر من ذلك بكثير، وإلا لما كانت العقوبة قاسية، دون تخفيفها في الاستئناف، بل التأكيد على الحكم الابتدائي، وهذا يعني أن الجريمة ثابتة بكل أركانها!
قضى حافظ مدة العقوبة، وبعد خروجه تعرض لمحاولة قتل، نجا منها بأعجوبة، واستطاع أن يقبض على القاتل ومن ثم مصادقته، فعرف منه أن الأميرة فيزنسكي هي التي استأجرته لقتله! وبعد هذه الحادثة تورط حافظ في مجموعة من جرائم النصب والاحتيال أيضا، منها احتياله على أحد المحال التجارية، ومنها احتياله ونصبه على الراقصة منتهى الأمريكية، عندما استولى على سوارها الذهبي بحجة استبداله بسوار من الماس، فتم القبض عليه ووضع في السجن! ثم نجده - في اعترافاته - يدفع عن نفسه هذه التهم، بحجة أنها من تلفيق الأميرة فيزنسكي،
24
قائلا: «أدركت في الحال أن اليد الخفية لا زالت تعمل في الخفاء لتحضير وسائل الانتقام، وأيقنت بأن الحكم ضدي سيكون شديدا ... ولكن الاستمرار في الرضوخ لنظرية احترام الأحكام معناها إضاعة سني عمري بسبب التهم التي تكال لي وصدور أحكام ضدي بسببها. من حق كل إنسان الدفاع عن حياته والاحتفاظ بالسلامة. ففي مقدوري عدم مخالفة القانون، ولكن ليس في مقدوري دفع اتهام باطل تدبر أسبابه وتجمع اليد الخفية الشهود الزور لإثبات الإدانة، فصار من المحتم علي أن أحمي حياتي من خصومي، والوسيلة المفردة للتمكن من الحماية هي عدم تنفيذ ما يصدر ضدي من الأحكام، وهذه النظرية والوسائل التي لجأت إليها لتنفيذها هي التي خلقت شهرة حافظ نجيب.»
Página desconocida
25
وهكذا نجد حافظ نجيب، يحاول تبرير كل جرائمه في النصب والاحتيال، بأنها جرائم ملفقة من قبل الأميرة فيزنسكي! وهذا التبرير لا يقنع الطفل الصغير؛ لأن من غير المعقول أن تتدنى أميرة روسية، صاحبة جاه ومال وسلطان وزوجة الملحق العسكري في الأستانة، فتقوم بتلفيق تهم النصب والاحتيال وتتورط في محاولة قتل، بمساعدة بعض أعوانها! ألم تخش هذه الأميرة على اسمها وسمعتها ومكانتها، إذا علم الأخرون بما تقوم به؟! ولماذا لم يقم حافظ نجيب نفسه بكشف علاقته بها إلى زوجها، أو إلى أية جهة أخرى انتقاما منها، كنوع من إبعاد خطرها عنه؟! وهذا غير مستبعد عن إنسان بأخلاق وتصرفات حافظ، علما بأنه اعترف كثيرا بأنه لم يحبها، بل كان يشبع رغباتها الآثمة على مضض! ووجهة نظرنا في هذا الأمر، تتمثل في أن الأميرة فيزنسكي شخصية وهمية لا وجود لها إلا في خيال حافظ نجيب وحده، وكأنها إحدى شخصيات رواياته الكثيرة؛ لأن شكوكا منطقية تحيط هذه الشخصية من كل جانب - بل وتحيط «اعترافات حافظ نجيب» - كما سنرى.
وبالعودة إلى حافظ في اعترافاته، نجده يتعرف على فرنسين اليهودية، والتي ساعدته في الهروب من السجن، بعد أن تم حبسه احتياطيا في جريمتي النصب والاحتيال الأخيرتين، وكان هذا أول هروب لحافظ من السجون المصرية! وتمثلت قصة هروبه في أن فرنسين ذهبت إلى نيابة شبرا واتهمت رجلا نصب عليها، واستولى على بعض مجوهراتها، وتظن أنه حافظ نجيب المحبوس احتياطيا في سجن الاستئناف. فقام الضابط المسئول باستدعاء حافظ لعرضه على المرأة لعلها تتعرف عليه. وقام بحراسة حافظ أحد الجنود، فتم استبداله بأحد أعوان فرنسين، وفي الطريق وأثناء الترحيل من سجن الاستئناف إلى نيابة شبرا، هرب حافظ نجيب!
وهكذا تخلى حافظ بهروبه من السجن عن اسمه، وفي ذلك يقول لفرنسين: «لا تتوهمي أن المطاردة ستكون سببا في عجزي عن التمتع بكل حريتي، إنهم سيطاردون حافظ نجيب، ولكنني سأترك لهم ذاك الاسم الذي يلوثونه والصورة التي خلقها الله، وسأتحول إلى إنسان جديد يحمل اسما نكرة ووجها كاذبا فأختفي عن العيون في ظلام التنكر، ولكنني سأعيش بين سمع الناس وأبصارهم؛ أمتع نفسي بكل ما على ظهر الأرض من الملذات.»
26
ومن الغريب أن حافظ نجيب - أو من عبث باعترافاته ونشرها بعد وفاته - نسي أنه كتب في مجلة «الحاوي» قصة بعنوان «زهرة هانم»،
27
وفي هذه القصة اعترف حافظ بأنه بطلها عندما كان شابا في العشرين من عمره، حيث تعرف على زهرة هانم في أحد أسفاره، فتعلقت به المرأة إلى درجة الجنون، ولكنه كان يصدها؛ لأنه شعر بأنها تريد امتلاكه. وعندما زاد صده لها استأجرت قاتلا محترفا ليقتله، ولكنه فشل في مهمته. وبعد أيام قبض البوليس على حافظ نجيب يوم 14 / 12 / 1907، ثم أفرجت عنه محكمة الموسكي الجزئية بكفالة مالية يوم 28 / 12 / 1907، وأرسل حافظ لأحد أصدقائه رسالة يطالبه بدفع الكفالة قبل ظهر يوم 29 ديسمبر.
وفي صباح يوم 29 ديسمبر استدعت نيابة شبرا حافظ نجيب للتحقيق معه في قضية جديدة لا يعلمها ولا يعرفها، فجاء عسكري لاستلامه من قسم الموسكي لترحيله إلى نيابة شبرا، واستقل العسكري بصحبة حافظ سيارة أجرة، فلاحظ حافظ أن السيارة تسير في طريق آخر غير طريق نيابة شبرا، حتى دخلت السيارة إلى قصر مهجور، وتم سجن حافظ في قبوه. وعرف حافظ أن هذا القصر لزهرة هانم، وأن العسكري باعه لها مقابل المال، ولكن حافظ نجيب بدهائه استطاع أن يهرب من القصر. وفي صباح اليوم التالي قرأ في الصحف هذا النبأ: خرج حافظ نجيب في حراسة عسكري للذهاب إلى قسم من الأقسام ففر منه في الطريق.
ومن خلال هذه القصة، يتضح لنا أن فيزنسكي هي زهرة هانم، بكل تصرفاتها والأحداث المحيطة بها، كما جاءت في الاعترافات! بل إن قصة زهرة هانم هي القصة الحقيقية الثابتة؛ لأنها منشورة عام 1925، أثناء وجود حافظ نجيب على قيد الحياة، وعندما كان متمتعا بحياة مستقرة وصاحب إحدى المجلات! هذا بالإضافة إلى وجود التواريخ الموثقة في قصة زهرة هانم، تلك التواريخ المهملة في معظم صفحات الاعترافات! ولهذا يسهل علينا أن نشك في «اعترافات حافظ نجيب »، وأن هناك يدا عبثت بها ونشرتها بعد وفاته!
Página desconocida
هناك سبب آخر لهذا الشك. فقد اعترف حافظ نجيب في اعترافاته عام 1946، بأن هروبه من السجن لأول مرة، كان بمساعدة فرنسين اليهودية، عندما قامت بتهريبه أثناء ترحيله إلى نيابة شبرا! ولكنه في عام 1925 كتب قصة «عمر بك»،
28
وكان هو بطلها وباعترافه. وفي هذه القصة نجده يقول إن سبب هروبه من السجن لأول مرة، كان بسبب فتاة تركية تعرف عليها وأحبها تدعى إقبال، كانت طريحة الفراش في مستشفى بحلوان بين الحياة والموت، وعندما هرب مكث معها لحظاتها الأخيرة! فأي القصتين نصدق؟! القصة التي كتبت عام 1925 بتوقيع صريح من حافظ نجيب، وباعترافه الصريح أيضا بأنه بطلها، أم القصة التي كتبت ونشرت بعد وفاته في اعترافاته عام 1946؟!
ولم يقتصر الاختلاف بين أحداث اعترافاته، وبين الأحداث نفسها المنشورة في قصص مجلته على هاتين القصتين، بل هناك قصص أخرى كثيرة، منها على سبيل المثال، قصة «علقة في الحمام» التي نشرت في مجلة «الحاوي» عام 1925،
29
عندما تنكر حافظ في شخصية الحاج فرغلي بائع الحمص والفشار، واستطاع أن يهرب من البوليس عن طريق حمام النساء، وتسبب في قيام النساء بضرب رجال البوليس بالقباقيب! وهي قصة نشرت في الاعترافات، مع اختلافات كثيرة، أهمها أن الحاج فرغلي في القصة أصبح عم دؤدؤ في الاعترافات عام 1946! وهناك قصة أخرى بعنوان «خادم الرئيس»، نشرت في «الحاوي»،
30
عندما تنكر حافظ في شخصية الخادم حسن، الذي عمل لمدة تسعة أشهر في منزل رئيس النيابة، وهي القصة نفسها التي جاءت في الاعترافات، مع بعض الاختلافات من أهمها أن حسن الخادم أصبح في الاعترافات الخادم مبروك!
وإذا كنا قد شككنا في شخصية الأميرة فيزنسكي، وأنها زهرة هانم، أو أنها شخصية روائية ابتكرها حافظ، فسنجد أيضا أن شخصية الكونتس سيجريس، التي تزوجها حافظ في اعترافاته، هي أيضا شخصية مشكوك في أمرها! فقد ألف حافظ عام 1915 مسرحية أو رواية «الحب والحيلة»، وهي تحكي قصته مع الملكة الفرنسية ناتالي، والقصة بكاملها عبارة عن مراحل متنوعة من علاقته بسيجريس كما جاءت في اعترافاته، مع الاختلاف في الأحداث والأسماء!
وفي عام 1920، ألف حافظ نجيب مسرحية «محور السياسة»، وفيها نجده يخدع الجميع بموته، ثم عودته إلى الحياة مرة أخرى، هربا من مطاردة البوليس، وإسقاط التهم المنسوبة إليه، وذلك كي يتزوج من تلميذته إحسان - بطلة المسرحية - وهذه المسرحية تمثل مرحلة من مراحل حياة حافظ نجيب، كما جاءت في اعترافاته، عندما أراد الزواج من سيجريس!
Página desconocida