15
حالته المالية تتحسن يوما بعد يوم، استحق علاوة، وعائده من الترجمة يتزايد، ولأنه لا ينفق إلا ما تحتمه الضرورة فرصيده في البريد يرتفع باستمرار. وهمته في العمل لا تهن، وعلاقته بمدير الإدارة حميمة كأنها الصداقة، ويوما قال له: أبدى سعادة المدير العام إعجابه بأسلوبك في الترجمة ..
فاجتاحته موجة فرح حتى أغرقته، وأيقن بأنه لن ينام من الليل ساعة. طبعا سعادته لا يتذكره، ولكنه بات يعرف الاسم وشخص المترجم المعنوي. قال مدير الإدارة: سعادة المدير مترجم كبير، ترجم كثيرا من الكتب الهامة فهو يقدرك عن بينة!
وتمتم شاكرا ثم قال: إنما نلت تقدير سعادته بفضل رضاك عني.
ابتسم المدير وقال بنبرة مبالغة في الود: دعيت لإلقاء محاضرة في جمعية الموظفين، وقد سجلت نقاطها، فما رأيك في أن تكتبها بأسلوبك الممتاز؟
فقال بحماس: إنها لسعادة كبرى يا سيدي المدير.
إنه يتمنى لو يكلف كل يوم بعمل كهذا. إن عمله في الإدارة - على ضخامته وتقدير الجميع له - لن يكفي وحده. فلا أقل من تقديم الخدمات للرؤساء، وإشعارهم بأهميته وفوائده الشريفة. ولعل ذلك يقلل من جزعه لقلة ما ناله بالقياس إلى ما يطمح إليه. ولكنه عزاء يتزود به في طريقه الطويل. وفي الليل غشيته كآبة بلا مقدمات وهتف: يا لي من مجنون، كيف أتصور أنني سأبلغ يوما مرادي؟!
وحسب ما ينقصه من درجات، الخامسة والرابعة والثالثة والثانية والأولى، قبل أن يتبوأ ذروة المجد! حسب ذلك وما يقتضيه من سنوات العمر فدار رأسه وداخله شعور عميق بالأسى. وقال إنه يجب أن يحدث شيء كبير، وإن حياته لا يمكن أن تضيع هدرا. وكان على موعد مع سعفان بسيوني في المقهى فارتدى ملابسه وغادر الشقة. وجد أم حسني في انتظاره أمام شقتها فقالت له: عندي ضيوف يجب أن تسلم عليهم، عندي سيدة وأم سيدة ..
دخل وسلم. دخل كالخائف ولكن سرعان ما أدرك أن كل شيء قد انتهى وانقضى. لم يلمس لمحة جفاء أو عتاب واحدة، ولكنه رأى نظرة محايدة لا تكلف فيها ولا التماعة تذكر فأيقن من سقوط الماضي في هوة الموت اللانهائية. وضاعف من إحساسه العميق بالزمن ترحيب الأم به ترحيبا صافيا بلا شائبة. رأى الموت يفترس قيمة عزيزة ظن بها الخلود والأبدية فإذا بها ذكرى مجردة تكاد تخرج من نطاق التاريخ نفسه كأنها خروج آدم من جنة الخلد. وها هي سيدة تميل إلى البدانة والبلادة. ذكرته بقدرية، فأمعن في الاضطراب ورأى أعلى ملاءتها قد هبط عن رأسها فطوق منكبيها، فانطلق الرأس والعنق في حرية، وتراجع منديلها المنمنم عن جبهة لامعة ومقدم شعر مفروق، أما الألق الذي ألف أن يطالعه في عينيها فقد استقر وانطفأ. تمت المقابلة في جو محنط وغربة ساخرة، وعبثا حاول أن يجد فوق الشفتين الغليظتين أي أثر لشفتيه أو أسنانه . مكث ما تقتضيه المجاملة ثم ذهب بقلب يخفق بالابتهالات للمجهول الغامض الفتاك ذي الابتسامة الناعمة القاسية. ذهب إلى رئيسه القديم لقضاء سهرة ودية لمناسبة إحالته على المعاش بعد أيام معدودات. أمسى الكهل عودا هزيلا، هلكت آخر شعرة في رأسه، لا بسبب الكبر ولكن لمرض في المعدة، ولكنه ظل طيبا مستسلما كالعهد به. ووضح أنه يستقبل نهاية خدمته بكآبة وحزن وتشتت فمضى يجامله ويقول: أتمنى لك راحة سعيدة مديدة ..
فقال الكهل وهو يضحك ضحكة لا معنى لها: لا أدري كيف تكون الحياة بعيدا عن المحفوظات ..
Página desconocida