وكل ما كنت قد عرفته عن المتهم أن اسمه حامد، وأنه لا يختلف عن بقية الفلاحين في المظهر أو الشكل، كل ما يميزه أنه كان طويل القامة، طويل الأنف، واسع العينين، إصبع يده اليسرى البنصر مبتور، وعلى وجنتيه عصفورتان موشومتان لتقوية بصره كما قال لي الترجمان، وطبعا لم أكن أريد أن أشترك في هذه المهزلة، ولكن صديقي بيلو ألح علي لأؤدي هذا «الواجب» باعتباري الوحيد الموجود الذي يحمل دكتوراه في القانون.
وطبعا كانت مهزلة، الفلاحون جالسون وواقفون في الساحة ينظرون لنا نظرات، كلغتهم، لا نفهمها، والمحكمة تتبادل التعليقات الساخرة بصوت مرتفع، وثمة مترجم ركيك لا يجيد العربية ولا حتى الفرنسية.
وجاء دوري لأدافع عن المتهم، ولست أدري ماذا كان رأي بيلو في دفاعي الذي بدأته بالحديث عن الثورة الفرنسية وشعاراتها المقدسة التي قامت من أجلها؛ الحرية والإخاء والمساواة، كم كان مضحكا أن أتفوه بها في ساحة شطانوف، والحكم صادر ولا ينقصه سوى التنفيذ!
ولحسن الحظ ولسوئه أيضا، لم يتح لي أن أكمل مرافعتي، فقد هجموا علينا، لم نكن ندري من أين جاءوا، ولكن امتلأت الساحة بتلك العصي اللعينة التي يسمونها النبابيت وبالحناجر المتوحشة الرهيبة التي تصرخ: لهكبر لهكبر، ولن أحدثك عن الرعب المجنون الذي انتابنا محكمة واتهاما ودفاعا وحراسا، فقد كنا لا نزال نعاني من فوبيا الفلاحين التي تكونت لدينا، فقد حدث بعد الاستيلاء على القاهرة أن أرسل نابليون جيشا بقيادة مارتن ليحتل المنطقة الشرقية من الدلتا، وخرج الجيش في الفجر، وما انتصف النهار حتى كانت قواته عائدة في حالة يرثى لها، الجنود يرتجفون وعيونهم تنطق بالرعب المجنون، وملابسهم في حالة تمزق كامل، وكل منهم يروي قصة مختلفة غريبة عن قوم متوحشين خرجوا عليهم مسلحين بالنبابيت والعصي والفئوس والمناجل وكانوا يصرخون كأكلة لحوم البشر وتخرج صرخاتهم كالرعد وهي تردد: لهكبر لهكبر (ومعناها أن الإله أكبر من كل الأعداء) وجنودنا كما تعلم هم صفوة الجيش الفرنسي المختارة، الصفوة التي فتح بها قائدنا العظيم نابليون النمسا وإسبانيا وبولندا وانتصر بها في سالزبورج وإيطاليا، الصفوة التي شتتت المماليك الشجعان الأقوياء في معركتين، تصور هذه الصفوة المسلحة بالبنادق والمدافع تواجه قوة مسلحة بالعصي والمناجل فتفر مفزوعة هالعة لا تملك حتى أن تطلق بنادقها أو تتجمع صفوفها «ولماذا أخفي عليك أن بعض جنودنا تبولوا على أنفسهم من شدة الرعب؟!» ولم يستطيع أحد أن يفسر هذه الظاهرة أبدا، وهل هي راجعة لوحشية هجوم الفلاحين أو لأسباب أخرى غير معلومة.
وكانت لهذه الحادثة نتائج رهيبة، فقد كان لرجوع جنود مارتن بهذا الشكل الدرامي أسوأ الأثر على الروح المعنوية لجيشنا كله.
ومنذ ذلك التاريخ أصيب جنودنا بمرض الخوف من الفلاحين إلى درجة جعلت أحد أطباء الجيش يطلق على هذه الحالة: «فلاحين فوبيا».
غير أن هذا المرض بدأ يزول تدريجيا حين تم لنا الاستيلاء على مصر، ورأينا الفلاحين عن قرب ولم نجدهم متوحشين ولا من أكلة لحوم البشر، وجدناهم حين عرفناهم طيبين جدا، ومسالمين، ويخجلون من الغرباء، ولكنهم مطيعون، وأحيانا كنا نجدهم ساذجين، حتى ليخيل للواحد منا أنه لو صفع أحدهم لما احتج ولما غضب، ولم نكن نستطيع أن نصدق أنهم هم الذين افزعوا قوات مارتن حتى أحالوها إلى قطيع من الحيوانات المذعورة التي تبحث عن النجاة بأية طريقة.
ما كدنا نرى هذه العصي الرهيبة التي يسمونها النبابيت ونسمع: «لهكبر» هذه حتى جرينا كلنا إلى القلعة لنحتمي بها، ولم تحدث في هذا اليوم خسائر، كنا فقط قد خسرنا المتهم؛ إذ كانوا قد استطاعوا في غمرة الارتباك الشديد الذي حدث أن يهربوه، وتولى بيلو غضب جامح، وجمع قواته في فناء القلعة، وألقى عليهم خطابا يفيض بالتأنيب والتوبيخ، وقال لهم إننا سنخرج كلنا من القلعة ولن نعود حتى نكون قد قبضنا على حامد هذا وعلى عشرة غيره!
وتركته هو يواصل جهوده المظفرة، أما أنا فقد أخذت طريقي عائدا إلى حفرياتي في منطقة الهرم، ولكن أخبار ما حدث بعد هذا كانت تصلنا من القاهرة باستمرار، ولم أعرفها وحدي، كان الجميع يعرفونها.
فقد خرج بيلو على رأس قوة القلعة كلها وحاصر شطانوف، وفتش كل المزارع التي حولها، وفتش كل البيوت ولم يعثر على حامد، فقبض على شيخ البلد وعلى عشرة من الأهالي، ونادى المنادي أيضا بأنه ما لم يظهر حامد فسيعدمهم، ولكن الشمس غابت ولم يظهر حامد، وخاف بيلو إن هو أطلق النار على الفلاحين الأسرى أن يزداد الشغب، فأعطى أهالي شطانوف مهلة أخرى، ولما لم يظهر حامد غضب بيلو وأطلق النار على شيخ البلد، واحتفظ بالباقين أحياء.
Página desconocida