أعانقهم وأبذل الجهود لأتخلص من أذرعهم الصغيرة الطفلة حتى أرى أبي، فأنا دائما مشتاق له، أنا ابنه الكبير، وحبيبه الكبير أيضا، وكان وضعي يحتم علي أن أبدو كالرجال تماما، وكنت أفعل، ولكني كنت دائما أحن إلى أبي، إلى طفولتي، إلى أن أنفض عني ثياب الرجال وأعود طفلا، أو كالطفل، حتى أبدو ابنا، وحتى أحس أني ابن، وكنت أحب أبي، أدخل من الباب فأجده قد أفاق مما كان يفعله على عجل، واقفا يرتدي جلبابه، ورأسه عار، وصدره مفتوح وهو حائر فرحان، يبحث هنا وهناك عن شيء يضعه في قدميه ليستطيع أن يسرع ويقابلني، فقد كان هو الآخر يحبني، يحبني أكثر من أي شيء آخر في الوجود، ويقف على باب دارنا الكبيرة ويفتح يديه الاثنتين ويقول: «أهلا أهلا، اخص عليك يا شيخ!»
وأندفع إلى حضنه ويندفع إلى حضني، وكم حضنته وكم احتضنني، وطول عمري كنت أريد أن أظل أحتضنه، كنت وأنا صغير لا أطول إلا ساقه فأحتضنها، ثم كبرت حتى أصبح في استطاعتي أن ألف يدي حول وسطه، وكم كان يملؤني هذا بالغبطة! ثم كبرت حتى أصبحت طوله وها أنا ذا أصبح أطول منه، وأحبه أكثر مما أحببته، وأنا لا أكاد أتعدى ساقه، أحتضنه وأقبله بلهفة، وألمح جلد رقبته وقد حفل بالتجعيدات، أحب تجعيداته، وشعر صدره، وقد ابيض وأطل من فتحة الفانلة، ولون بشرته الداخلية الفاتح، ووجهه الأسمر، وأنفه الهادئ الطيب، وعينيه الحافلتين بالخير والحب، وأقبله أكثر، ويقبلني والدموع تكاد تأخذ طريقها إلى عينيه، وهو يقول: «اخص عليك يا شيخ! وحشتنا خالص!»
وفي تلك اللحظات أصمت، وأحس بالروح تعود إلي، أنا مضيع في المدينة الكبيرة، وحيد، وهنا أبي، هنا بيتنا ، هنا أنا إنسان له أب ويعرف أصله وفصله، والأرض التي شب عليها.
أبي لا يريد أن ينهي العناق، وإخوتي من حولي، يتخاطفون مني الحقيبة ويتشبثون بملابسي، ويعانقون بعضهم بعضا، وأمي أعرف أنها لا بد في تلك اللحظة متناومة، تنتظر مني أن أذهب إليها، وأنادي فلا ترد علي، وكأنها في أحلى نعاس، فأذهب إلى الفراش، وأمسك يدها، وأميل بجسمي كله وأقبل اليد البيضاء الخشنة، وحينئذ تفتح أمي عينيها وكأنها تستيقظ، وتقول في حزن: «الله يسلمك»، ولا أملك نفسي فأضمها وأقبلها في جبهتها، فلا تملك نفسها هي الأخرى وتقبلني في وجنتي، وصوتها ممدود شاك حزين، وتلك طريقتها في بث أشواقها إلي؛ إذ هي لا تظهر حبها أبدا.
ونجلس حول فراشها، وكل أخ من إخوتي يزاحم الآخر ليجلس بجواري أو فوق رجلي، وأبي يبتعد عني ليوفر لهم المكان، ولو كان الود وده لزاحم وما تركني، وأمي تشكو من الزكام والروماتيزم ورأسها الذي يكاد يطير، وأبي فرحان فرحا لا يوصف، يخفيه بصمته وتهيئة وسائل الراحة لي، فيضع وراء ظهري مسندا، أو يجعلني أقوم من مكاني لأجلس في مكان آخر أكثر راحة، وهو من فرط فرحته قد نسى أن يرتدي في قدميه مداسا، وأقدامه كبيرة، كنت شغوفا وأنا صغير أن أمسح وجهي في بطنها، وألعب في إصبعها الكبير وأنا فخور بكبره، وكبرها.
نجلس، عائلة تواجه الحياة، ولكنها في ساعة صفو، ساعة تتبخر فيها الأحزان والمتاعب ولا يبقي سوى الحب والشوق، والكلمات الصغيرة المبعثرة والضحكات، ضحكات صافية، والعائلة صغيرة، والحياة كبيرة، والطريق شاق، ولكن لها هي الأخرى ساعتها، ساعة كتلك، اللمبة الغاز مشتعلة والحجرة حجرة أرياف، والسرير له ناموسية، والكنبة تضيق بنا، وفي الصيف لنا جلسة في الفضاء أمام الباب، وأبي سعيد، جالس بيننا كالإله! كلنا نحبه، ونذوب في حديثه، ما أجمله حين يتحدث! في الحال نصمت كلنا ونترقب، ويبدأ حديثه بابتسامة تظل طوال الحديث، وحنجرته رنينها حلو، وصوته ملآن، وطريقته في الكلام تأسرنا وتخلب ألبابنا، يكون قد ذهب إلى المحكمة مثلا وأدى الشهادة، ويقص هذا علينا، ونحب قصته فهو يبدأ من اللحظة التي نريده جميعا أن يبدأ منها، ويقص علينا التفاصيل المثيرة الدقيقة ويسرح بنا، ويدخل في حكاية أخرى، ولا نحس أن حكاية بدأت وأخرى قد انتهت، إنما نحس أننا سعداء، وأننا نحب أبانا ونعبده. •••
لم تقم خالتي بديعة وتترك ما في يدها وتعلن قدومي في هذه المرة، بل ردت تحيتي، وخفضت رأسها، وانهمكت تجلي الحلة، وتركتها واتجهت إلى دارنا، كان باب الحوش مفتوحا، والباب من الصاج والهواء يتلاعب به فتزيق مفاصله، ووراء الباب فرخة منكمشة على نفسها، وطفل يتبول، ودخلت، الهدوء هو الهدوء، ولكن بيتنا ليس هو البيت! فهذا أوسع وأكثر ارتفاعا، وفيه فراغ كبير، خطوت إلى الداخل بضع خطوات، الفناء هو الفناء «الطلمبة» موجودة، وحرفها من الحجر، والماء يتسرب من الحوض ويصنع قنوات، والأشجار متفرقة كعادتها، والنخلة قد نمت وقتلت ما حولها من نخيل صغير، وأصبحت أطول من الحائط، وشجرة العنب ماتت لا ريب من كثرة الماء، وبرج الحمام في آخر الفناء، أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود، والظلام يشع من داخلها، والأرض عليها عفش ومهملة، والفناء كبير.
ووجدت باب البيت مفتوحا هو الآخر، ولا أحد على الباب، ولا أحد في الداخل، ولا أحد ينتظرني، وكل شيء مهمل، والدنيا شتاء، واصفرار الشمس قد ازداد، والنخلة الصغيرة طول ظلها يمتد بطول منزلنا.
ودخلت البيت، الصالة الكبيرة أكبر مما رأيتها آخر مرة، والسقف مرتفع، وعروق السقف أكثر بروزا، والكنبة بياضتها متسخة، ومساندها نائمة والحجرات مقفولة، ولا صوت!
الحمام واقف على قمة الباب المؤدي إلى السلم، يهدل هديلا ممدودا قبيحا، وكلبنا نائم على فروة الصلاة، وعصافير غير مرئية تصفر، وشعاع شمسي قد اخترق بئر السلم، وسقط على أرض الصالة فصنع دائرة صغيرة من الضوء الأصفر، وتعلقت بالشعاع ملايين الذرات.
Página desconocida