وأنت فإذا أردت أن تدرس علم البلاغة من هذه اللغة الطبيعة فادرس المصائب والآلام والأحزان؛ إنها هي أقانيم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وإنك إن درستها وتدبرت شواهدها الصحيحة التي لم يصنعها رواتها ولم يجيئوا فيها بمنكر القول وزوره، أصبحت أفصح من ينطق عنها في هؤلاء البكم الذين يقرأ أحدهم صفحة الزهر بعينين في أنفه
1 ... ولا يستحي الغبي أن يقول لك إن في الزهرة معنى جميلا، كأن في أنفه عقلا من العقول العشرة ...!
فمن أحب ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال ملك يتمثل له في حلم من أحلام الجنة، ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية، وفي خديها توقد الفكر الإلهي العظيم، وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائما أن شمس روحه تكاد تمسي: ورآها في جملة الجمال تمثال الفن الإلهي الخالد الذي يدرس بالفكر والتأمل لا بالحس والتلمس، فأطاعها كأنها إرادته واستند إليها كأنها قوته، وعاش بها كأنها روحه - فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب ويفهم معناه السماوي، وهو الذي يقول لك صادقا مصدوقا. إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صلصلة الملك الذي يفجأ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة.
ليس كل ما يعجبك يرضيك، ولكن كل ما يرضيك يعجبك، فالجمال الوصفي الذي يقاس بالنظر ويخرج منه الفكر بنسبة هندسية، جمال صحيح وحري أن يكون معجبا؛ ولكنه على كل حال بناء جسمي كالقصر المشيد الذي يعجب الفقير المعدم فيتمناه، فإن هو صار له خاليا لم يرضه، لأنه لا يلتحف سقوفه المموهة، ولا يفترش أرضه الموطأة، ولا يلبس جدرانه الموشاة، ولا يقتات من هوائه الطلق؛ أما الجمال الذي يرضي فهو الذي يشف عن صورة روحك بغير ما يخيلها لك ماء الحياة العكر - هذا الذي لا يشف عن شيء ولا يزال يضطرب فيجعل شبحك في اختلاطه كأشباح البهائم يخلق كل منها خلقا جديدا كلما ضربت البهائم في الماء بأرجلها - فترى من ذلك الجمال كأن ملكا هبط عليك من السماء وفي يده مرآه فنظرت فإذا صورتك بعينها ولكنها في يد ملك.
وقليل أن يجد الناس مثالا من ذلك الجمال، فكثير منهم يجحدون ويرونه ضربا من الوصف الشعري الذي يظهر في خلقه وإبرازه مقدار ما في الشعراء من روح الله؛ وإنما يجحد مثال الجمال الكامل من لا يستطيع أن يكون مثال الحب الكامل، وإذا كانت المرآة قد علاها الصدأ فكيف يعلوها الوجه الجميل، وكيف تخلص إلى روحك من طين هذه الكأس الزجاجية (المرآة الصدئة) نشوة الجمال ولو سكبت فيها حور الجنة كل ما في خدودها؟
ولقد قيل: إن قوما من العرب ترحلوا عن بعض منازلهم فكان من أنسائهم
2
قطعة مرآة صقيلة كأنها وجه المليحة التي نسيتها، فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبح طلعة وجهامة منظر، حتى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتذت بها، فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسنائها، وما كادت تنظر فيها حتى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل؛ لأن الله رحيم، ومن رحمته أن لا تعرف الوحوش أنها وحوش، وأن لا تجد أسباب هذه المعرفة، فانقبضت الضبع وزوت وجهها وقالت: من شر ما اطرحك أهلك أيتها المرآة ...!
فجمال هذه الضبع الذي جحدته المرآة كما يجحد الكافر رحمة الله وحسنها الذي أحالته المرآة قبحا كما يخيل الطبع اللئيم كل حسنة تتصل به إلى سيئة. هما أشبه شيء بالعقل والقلب في المحب الأخرق الذي يحب حواسه فتجوع روحه وتشبع وتعتل بالتخمة أيضا ... وكم في الناس من مثل هذه الضبع، وكم في الحسان من مثل تلك المرآة!
أحس وما أحسب الإحساس إلا نكتة صافية في القلب تقابل نكتة العين التي يكون بها البصر، فكل ما انطبع في هذه انطبع في تلك، لكي تكون الروح بين مرآتين فيسهل عليها أن تدرس الحقيقة بالمقابلة، فإذا نزل الشاعر الدقيق الحس بروضة غناء نضرة أحس بقلبه كأنما يخضر بعد يبس، وإذا أطل في الغدير الصافي أحس بمعنى الماء ينساب في عروقه، وإذا نظر إلى وجه الجميلة الحسناء فلماذا لا يحس أن قلبه امتلأ جمالا حتى كأنه لا يعشق منها إلا شيئا في نفسه؟
Página desconocida