8
إلا أزهارا وألوانا وأريجا ونسيما، وتحمل وتضع وهي لا تنفك تتنفس ألحانا، ثم تطلع عليها شمس الغد بالموت كما طلعت في الأمس بالحياة، ولا يمتد الضحى حتى تتخذ من بعض الأزهار كفنا وتموت وهي تتغنى، ثم تلوح في شعاع الشمس كأنها نقطة سوداء قطرت من مداد الموت على صفحة من ورق الأزهار لكي تدكر بها روح الربيع أي ليس في الأرض خلود!
ولا يحسبن الإنسان أنه المستبد بالأرض يقوم عليها بنظامه ويبرأ منها، فإن الأرض تقوم عليه من قبل بنظامها. بل هو نفسه معنى من هذا النظام الذي لا ترخص فيه وإنما يمضي على الإنسان وغير الإنسان بعزيمة واحدة وفيه الألم والراحة جميعا.
ومهما نعم المرء فلن يبلغ مبلغ الزهرة النضرة العطرة التي تجتمع أوراقها وتتماسك مدة بقوة الحياة العطرية ثم تبلم بها نسمة تستميت في تخافتها وتجيئها وهي من الضعف كأنها صدى قبلة الحسناء المذعورة، فتنثر أوراقها وتهدم هذه البنية الملونة كما تنهدم لذات الحلم بالحركة الضعيفة من جفن النائم ساعة يستفيق!
والحياة الأرضية في طبيعتها غليظة جافية مستحكمة لو ترك لها الإنسان كما هي؛ لأنشأته خلقا أرضيا بحتا، ولكن الله جعل فيها مواضع رقيقة تشف عن السماء وما وراءها إلى مصدر القوة الأزلي وهذه المواضع هي الآلام، فهي التي يرفع منها الإنسان يده إلى السماء بضراعة إنسانية متبرئا من قوته مقرا بضعفه، وهي كذلك التي يرسل منها الإنسان نظرة إلى الأرض برحمة سماوية تنفذ إلى قلبه بالمعاني الجمة من شقاء الناس وبأساء الحياة؛ فلا يستروح هذا الإنسان من ألمه إلا وقد أكسبه الألم فضل الإنسانية وبر الفضيلة وصحة الإيمان وقوة النفس، وإن مرض يوم واحد تتوجه فيه النفس إلى الله وتعرف كيف تتنزه عن دنايا الأرض وشهواتها، لهو أجدى لها وأرد عليها بفضيلة الإنسانية من قطع دهر في دراسة كل ممتع من كتب الفلسفة.
وبئس - لعمر الله - الرجل يكون في ضرعته وما فيه إلا نفس لا تدري أيهما أضعف: أهذا النفس الذي يتعثر في صدره، أم ذلك الجسم الذي يتنغش كفراخ الطير؟
9
ثم تراه متى أحس القوة وقد ثار كما يثور الوحش من ضجعته، وكان في ألمه أشد حنقا، وكلما تمادى به الألم سخط واستحق كما يكون العاجز الموتور الذي يأكل انتقامه من نفسه ولا يزال يشره إليها ما بقي الرجل عاجزا، فهذا وأمثاله ممن تشف لهم السماء موعظة واعتبارا وهم يتبخصون
10
لها تعجبا وإنكارا، وإنما يسخطون على ربهم سخطا لا يشبه شيء إلا ما يكون من حنق الصبيان إذا فضل أحدهم عليهم فانقلبوا ساخطين على الأفضل ومن فضله جميعا، يرون سخطهم كأنه تفضيل لأنفسهم ... وهو إن لم يكن توقحا ونذالة فليس بدونهما.
Página desconocida