بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: إذا سلم للخصوم ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " (1)، كان محمولا على أن الذي تركه الأنبياء عليهم السلام صدقة، فإنه لا يورث، ولم يكن محمولا على أن ما خلفوه من أملاكهم فهو صدقة لغير هم (2) لا يورث (3).

Página 19

والحجة على ذلك أن التأويل الأول موافق لعموم القرآن (٤) وتأويل الناصبة (٥) مانع من العموم، وما يوافق ظاهر القرآن أولى بالحق مما خالفه.

فإن قالوا: هذا لا يصح، وذلك لأن كل شئ تركه الخلق بأجمعهم صدقة وكان من صدقاتهم لم يورث ولم يصح ميراثه فلا يكون حينئذ لتخصيص الأنبياء عليهم السلام بذكره فائدة معقولة.

قيل لهم: ليس الأمر كما ذكرتم، وذلك أن الشئ قد يعم بتخصيص البعض للتحقيق به أنهم أولى الناس بالعمل بمعناه وألزم الخلق له، وإن كان دينا لمن سواهم من المكلفين، قال الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/0/79" target="_blank" title="سورة النازعات: 79">﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾</a> (٦) وإن كان منذرا لجميع العقلاء.

وقال: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/0/9" target="_blank" title="سورة التوبة: 9">﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة﴾</a> (٧) وإن كان قد يعمرها الكفار ومن هو بخلاف هذه الصفة.

وقال: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/0/8" target="_blank" title="سورة الأنفال: 8">﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم﴾</a> (8) وإن كان في الكفار من إذا ذكر الله وجل قلبه وخاف، وفي المؤمنين من يسمع ذكر الله

Página 20

وهو مسرور بنعم الله أو مشغول بضرب من المباح، فلا يلحقه في الحال وجل ولا يعتريه خوف.

وهذا محسوس معروف بالعادات وهو كقول القائل: نحن معاشر المسلمين لا نقر على منكر، وإن كان أهل الملل من غيرهم لا يقرون على ما يرونه من المنكرات، وفي المسلمين من يقر على منكر يعتقد صوابه بالشبهات.

وكقول فقيه من الفقهاء: نحن معاشر الفقهاء لا نرى قبول شهادة الفاسقين، وقد ترى ذلك جماعة ممن ليس من الفقهاء.

وكقول القائل: نحن معاشر القراء لا نستجيز (9) خيانة الظالمين، وقد يدخل معهم من يحرم ذلك من غير القراء من العدول والفاسقين، وأمثال هذا في القول المعتاد كثير.

وإنما المعنى في التخصيص به التحقيق بمعناه، والتقدم فيه، وأنهم قدوة لمن سواهم، وأئمتهم في العمل نحو ما ذكرناه.

ووجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون قوله عليه وآله السلام - إن صح عنه - أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه. صدقة لا يورث " أي لا يستحقه أحد من أولادنا وأقربائنا وإن صاروا إلى حال الفقراء التي من صار إليها من غيرهم حلت لهم صدقات أهليهم، لأن الله تعالى حرم الصدقة على أولاد الأنبياء وأقاربهم تعظيما لهم ورفعا لأقدارهم عن

Página 21

الأدناس (10)، وليس ذلك في من سواهم من الناس لأن غير الأنبياء عليهم السلام إذا تركوا صدقات ووقوفا ووصايا للفقراء من سائر الناس فصار أولادهم وأقاربهم من بعدهم إلى حال الفقر كان لهم فيها حقوق أوكد من حقوق غيرهم من الأباعد.

Página 22

فمنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذريته وأهل بيته من نيل ما تركه من صدقاته وإن افتقروا وخرجوا من حال الغنى، وكان المعنى في قوله " لا نورث " أي لا يصير من بعدنا إلى ورثتنا على حال، وهذا معروف في انتقال الأشياء من الأموات إلى الأحياء، والوصف له بأنه ميراث وإن لم يوجد من جهة الإرث (١١). قال الله عز وجل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/0/33" target="_blank" title="سورة الأحزاب: 33">﴿وأورثكم أرضهم وديارهم﴾</a> (12) فصل:

وقد تعلق بعضهم بلفظ آخر في هذا الخبر فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه هو صدقة " (13) وهذا أيضا لا يصح (*).

فالوجه فيه: أن الذي تركناه من حقوقتا وديوننا (فلم نطالب في حياتنا ونستنجزه قبل مماتنا فهو صدقة) (14) على من هو في يده من بعد موتنا وليس يجوز لورثتنا (15) أن يتعرضوا لتمليكه فإنا قد عفونا لمن هو في يده عنه بتركنا قبضه منه في حياتنا، وليس معناه ما تأوله الخصوم.

والدليل على ذلك: إن الذي ذكرناه فيه موافق لعموم القرآن وظاهره (16).

Página 23