فضحك «إبليس» وقال: إذا شاء تصدقت عليه ببضع ريشات من جناحي، فطلبت أنا من إبليس أن يعطيني ريشة من جناحه أدخرها وأذكره بها، فأعطاني ريشة من جناحه، وهي محفوظة عندي. ومن شاء من القراء أن يرى كيف يكون ريش إبليس، فليخابرني وهي التي أكتب بها هذا الحديث.
قال إبليس: إني لأذكر أن الكواكب كانت تسمع غناء الملائكة فيطربها، ويعينها على الدوران، كما أن النياق تسمع حداء الحادي فيطربها، ويعينها على الأسفار، فهي في سيرها تنصت إلى الغزل الرقيق الذي تحدوها به الملائكة مثل غزل «العباس بن الأحنف»، أو «قيس بن الملوح» أو «برنز»، أو «شلي»، ولكنها تأنف من سماع الشعر البارد الثقيل، فقد غناها أحد الملائكة مرة بقطعة من الشعر المرذول، فضجت الكواكب، ووضعت أصابعها في آذانها، وجعلت تستغيث وتقول: إن عدتم إلى مثل هذا الشعر اختل نظام الكون.
وبعد أن شربنا من الجعة ما فيه الكفاية، وتركنا حانة إخوان الصفاء، وجعلنا نمشي في الأزقة. وبينا نمشي إذ زلقت قدم أحد المارة فسقط ، فقال وهو لا يعرف أن «إبليس» من المارين: اخسأ اخسأ فهذه من فعلاتك يا «إبليس»، فالتفت إلي «إبليس»، ثم قال: إنه لا يغيظني من المرء شيء مثل غروره وبلادته، فإذا زلقت قدم أحدكم، حسب أن ذلك من فعلاتي، وإذا عطس حسب أني سددت منخره، وإذا تثاءب حسب أني دخلت فمه، كأني ليس لي عمل في هذا الوجود الضخم سوى أن أسد مناخر الناس القذرة، أو أن أدخل إلى أفواههم النجسة، أو أن أتشبث بأقدامهم. ولو علم هذا الثقيل أني أمد يدي إلى السماء فأغمرها في الأثير الأعلى، وأمد رجلي في باطن الأرض فأدفئها بالنار المشبوبة عند مركز الكرة الأرضية، لما نسب إلي أفعال الصبيان.
ولقد جعلت أنا وشيطان آخر نلج بيوت الصالحين المتقين من الناس، فدخلنا منزل الشيخ فلان، وهو رجل من أهل التقوى والصلاح، فوجدناه يتغذى مع امرأته وهي تقول له: يا حسرة وألف حسرة ماذا أجداك ورعك وزهدك وقيامك الليل، ولو بذلت من جهدك في تكميل حياتك بلذاتها بعض ما تبذله في الصلاة والأوراد، لكنت أحب إلى الله وأقرب إليه، فقال: اسكتي يا فلانة، هل حياة خير من حياة تخدمنا فيها الملائكة؟ أما والله إن تحت هذا الخوان لملائكة على رءوسهم، فقلت: والله لا نكذب العبد الصالح، ثم قبعنا وجعلنا نمشي مثل القطط، حتى صرنا تحت الخوان، وحملناه على رأسينا حتى دميا، ثم كشف عن رأسه، فرأيت فيه دملا في حجم البعرة، فقال: هذا من آثار خوان العبد الصالح. قص «إبليس» هذه القصة، ثم ضحك حتى استلقى على قفاه من شدة الضحك.
ثياب الكائنات
حدثني «إبليس» قال: الإنسان حيوان جليل، قيل إنه يمتاز عن غيره من الحيوانات بالضحك، ولكن الباحثين قد وجدوا أن من الحيوانات ما يضحك. وقد أخبرني صديق لا أثق بحديثه أنه رأى بقرة تبسم له، وتغمزه بطرفها، وقيل إن الإنسان يفضل الحيوانات بشرب الخمر، ولكنهم وجدوا أن الخيل تشرب النبيذ وتستلذه ، وقيل إن الإنسان يفضل الحيوانات بلبس الثياب، ولكنا نجد القرود يصنع لها أصحابها الثياب فتأنس بها، وتعجب بها كما يعجب المرء بثيابه، وتزهى بها كما يزهى بلباسه.
على أن المرء لم يلبس الثياب إلا بعد أن أتقن النفاق، فلبس الثياب وادعى أنه لبسها كي تقيه من الحر والبرد. والصواب أنه لبسها كي تخفي قبح جسمه. ومن أجل ذلك ترى المرء إذا عظم جماله خفف من ثيابه، والدليل على ذلك ثياب النساء الرقيقة التي إنما صنعت لتظهر رقة أجسامهن، ودليل على ذلك أيضا ما كان يفعله «إسكندر المقدوني»، فإنه كان يتعرى أمام أصحابه، كي يريهم جسمه الجميل، ويوهمهم أنه من أبناء الآلهة.
إذا بحثت وجدت أن أكثر الناس ولعا بحمامات البحر هم الذين رزقهم الله شيئا من الجمال، وقد تمر بالمرء ساعات يتذكر فيها أيام العري في أول الخليقة، أيام كان المرء عاريا من حلل الحياء الحميد، كما كان عاريا من حلل النفاق الذميم.
ويقال إن سبب اتخاذ الناس الثياب أن الحيوانات في أول الخليقة لما رأت نعومة النساء صارت تتعشقها، وتنظم فيها الغزل والنسيب، فلما رأى الإنسان ذلك لبس الثياب كي يخفي عن الحيوانات جسمه، ألم يجل بخاطرك أننا أيضا ثياب للعوامل والخواطر والآراء التي تتنازعنا؟ وهذه الآراء أليست لباس الحق والباطل؟ وهذه العوامل أليست لباس الخير والشر؟ فهل الحق والخير والباطل والشر من قماش واحد ينسجه الزمن على منسج الأيام والليالي؟ أم هي أقمشة شتى؟ وما هو الزمن؟ هل هو لباس أيضا؟ والمادة أهي لباس القوة؟ والقوة أهي لباس أيضا؟ أم ما هي؟ أهذا الوجود كله ثياب تحتها ثياب وفوقها ثياب؟ ومن الذي جعل المرء قادرا على الرغبة في رؤية الحقيقة التي في ثياب الكائنات؟ وما هي القوة التي يحاول بها معرفة حقيقة الحقائق التي تضمرها ثياب الكائنات؟ هل هناك حقيقة تحت هذه الثياب؟ أم الكائنات ثياب ليس وراءها حقيقة كالثياب التي يضعها الغلام بعضها فوق بعض كي يخيف بها أخاه الصغير؟ فإذا كان الأمر كذلك، ما الذي يلج إلى روح المرء، ويجعله قادرا على تخيل حقيقة ثياب الكائنات؟ أليست الحقيقة التي ينشدها هي التي تغريه بتلمس تلك الحقيقة؟
دولة البغال
Página desconocida