وبعد، فبأي شيء يفخر الإنسان؟ أبعواطفه وأفكاره وآرائه وعلومه وهو يكتسبها من بطنه؟ لأن الطعام الذي تحويه معدته تستخرج منه تلك الدوافع التي يسميها عواطف، وتلك الآراء والأفكار التي يسميها حقائق. والدليل على ذلك أن الإنسان تختلف أطواره، وميوله، وأحواله حسب اختلاف أنواع الطعام الذي يأكله، وما يتبع ذلك من سهولة الهضم أو صعوبته، وقد بلغني أن بعض الأطعمة تكسب المرء بشاشة ورقة أكثر مما يكسبه غيرها.
ألم تتذكر أيها القارئ حين رقص الحب في عروقك، وغمز مفاصلك فحسبته وحيا من الطبيعة، وسرا من أسرارها، وروحا من أرواحها، وضوءا من أضوائها؟ ولو بحثت عن سبب ذلك الحب لعلمت أنه خصيصة في بعض الأطعمة والأشربة، وهناك أطعمة أخرى تغري المرء بالرحمة والكرم، ومن أمثال تلك الأطعمة البالوظة أو المهلبية، فإنها تجعل القلب ناعما لينا مثلها، فيلين لدواعي الرحمة، وإني لأتذكر أني أكلتها مرة، ثم خرجت إلى الأسواق، فلم أر فقيرا إلا أعطيته من دراهمي، فلما نفذت تصدقت بثيابي. كل هذا الكرم من فعل البالوظة، قاتلها الله. أما المخلل فإنه يعلم المرء الشراسة، وقلة الأدب، وقد يفرق بينه وبين زوجته؛ لأنه يغريه بالغضب والسباب، ولو شئت ذكرت لك أصناف الأطعمة، وأظهرت لك كيف أن جميع أخلاق الناس وآرائهم مكتسبة منها.
وقد بلغني أن بعض الشعراء لا ينظم الشعر إلا إذا كان به مغص أو عسر هضم، فلا يغريه بنظم الشعر غير المغص أو عسر الهضم، قلت: هذا - والله - لا شك فيه، فإن قراءة شعر بعض الشعراء تورث المرء إما مغصا، وإما عسر هضم. وقد زعم بعض الفلاسفة الماديين أن المادة تفرز التفكير ، كما يفرز الجسم الأدناس. فليس من العجيب أن نسمع بعد ذلك أن المادة نفسها من أدناس الزمن.
مناظر الشقاء
قال «إبليس»: «إذا شئت أن تعرف معنى الحياة، فاسر معي. فسريت في ليل غارت كواكبه وقامت نوادبه، فجعلت أشق جيب الظلماء كالسابح في الماء، وأتعرف مظان العبرة لأريق العبرة، فدفعت إلى بيت خرج من إهابه، ونم عن أصحابه وجهه شاحب، ولونه غائب، قائم في الظلام كالأحلام، أو كأنه شيخ ناهضه الزمان، وقارعه الحدثان. إذا رميته بنظر صادق ولحظ وامق، لمحت فيه بقية من النعيم المسلوب، كأنها الذكرى الخلوب في الخاطر الحرب، والشمس في ضحى شحب، والزهرة فوق الرمس، ويوم صار أمس فولجت بابه، وقطعت رحابه، حتى دفعت إلى مكان يلوح منه نور ضئيل كما يلوح اليقين في ظلمة الجحود.
فنظرت - وما أروع ما نظرت - امرأة عجفاء بين الصغيرة والكبيرة ذات وجه مهزول، وشعر مهدول، ولباس كأنه قد من الظلام وخاطته الأيام، وحسن زائل، ولون حائل، وقدم براها الحفا وجلال كأن لم يكن، ووقار كأن لم يزل، ونظرت في الغرفة فرأيت أرضها مثل سمائها خالية إلا من البرد اللاذع، غير سرير من الخشب ليس عليه من الفراش ما يدفع سطوات القر، وجعلت المرأة تحنو على السرير فوق غلام في السابعة، تملكه الداء وعز الدواء، يتلوى على سريره، ويسأل عن نصيره، وإنما نصيره الموت.
ثم يقول: يا أماه قد أخذ مني الجوع مأخذه، ولو كان ما بي من الداء لصبرت، ولكن الداء والجوع والقر يا أماه آلام تغالبني، وأنا الضعيف، أتطلبني بوتر ولم أرد من الحياة موارد الآثام؟ أماه أين ما ورثته من العيش الفينان والنعيم الوثير؟ ... لقد أودى به أبي ... أماه لشدة ما عانيت من ذلك الرجل الغليظ الكبد، أنسيت إذ أتى البارحة مع الفجر، يتمايل من خماره؟ فجعل يضربني وبي من الداء ما بي، ثم أخذني بيده فرمى بي ناحية من الغرفة، أنسيت إذ عاتبته فقام إليك، وجعل يضرب بك الحائط؟
ثم سكت الغلام قليلا، ثم صرخ قائلا: أما إن ألم الجوع لشديد أهاه أطعميني ... أو ... أو ... اقتليني. وجعلت المنكودة تذرف الدمع، وتقول : ليس عندي يا بني ما أقريك غير العبرات، وكأنما أجهد الكلام الغلام، ورثى له الموت فمد إليه يده.
ألح عليه السقم حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
Página desconocida