وقد شوهد نساء كن يحسبن من السعيدات المنعمات؛ لأن أزواجهن كانوا يغدقون عليهن النعمة ويتأدبون غاية الأدب في خطابهن ولا يزالون معهن على ديدن الكياسة في الخلوة والاجتماع كأنهم يعيشون معهن الدهر على ملأ من نبلاء القرون الوسطى! فلم تنقض عليهن مدة حتى طلبن الطلاق وألحفن في طلبه، وذهبن إلى أزواج يمزجون الرضا بالغضب واللين بالخشونة، فأخلدن إلى العيش معهم وآثرنه على تلك المجاملات التي لا انقطاع لها في خلوة ولا اجتماع.
وشوهد نساء يشكون بين الجد والمزاح أن أزواجهن يسرعون إلى استجابة كل إشارة لهن، وإنجاز كل رغبة من رغباتهن، وسمعت من هؤلاء النساء من تقول: بودي لو يخالفني يوما فيأبى أن يذهب إلى دور الصور المتحركة حين أقترح عليه الذهاب إليها، وبودي حين يقبل الذهاب أن يخالفني ولو في اختيار الدار التي أدعوه إليها.
وفي هذه الأمنية من جد أكثر مما فيها من مزاح.
لأن المرأة تستريح إلى الشعور «بالحماية» وتنوط بهذا الشعور طمأنينتها وتسند إليه ضعفها، وهي لا يخلص لها الشعور بالحماية إذا انطلقت بغير وازع يمنعها بعض المنع ويردها إلى الطاعة من حين إلى حين. وقد تخالف الرجل فتسعد بالنجاح في المخالفة، ولكنها تشيع هذا النجاح بالندم وتود لو حبطت مخالفتها وتعوضت منها الشعور بالقوة التي تردها إلى طاعتها.
وشغل الإحساس ضرورة للمرأة لا محيص لها عنها أو ضريبة مفروضة عليها لا نجاة لها منها، وكفى من بواعثها إلى شغل إحساسها أنها تمتحن في كل دورة قمرية بثورة لا تكبحها أو بهمود لا ينقذها منه إلا ثورة تلعجها وتحرك رواكدها، وإنه مع هذا لسبب عارض يزاد على السبب الدائم الذي جعل حياتها منوطة بالمؤثرات الحاضرة غير حافلة بما يعقبها.
ومن المتواتر في أقوال بعض الرجال من عشراء النساء الطبيعيات أن المرأة تحب الرجل الذي يضربها ويهينها، وتؤثره على الرجل الذي يكرمها ولا يزال يترضاها.
وقد يكون في هذا القول تقديم وتأخير: تقديم للضرب والإهانة على الحب، وأحرى أن يتقدم الحب على الضرب والإهانة؛ فإن المرأة تقبلهما ممن تحبه لتزداد شعورا بحبه وغلو قيمته لديها، وقد يسرها أن تعلم كيف أصبحت أثيرة عند الرجل حتى أثارته غيرة عليها أو اهتماما بشأنها؛ لأن قلة الاكتراث هي أخوف ما تخافه من الرجل الذي يعنيها.
ولكن التقديم والتأخير في ذلك القول لا يجردانه من الصدق الذي تعرف له علة معقولة؛ فإن المرأة يلذ لها الخضوع إذا وجدت من يخضعها لأنه يحقق لها أنوثتها بين يدي الفحولة الغالبة عليها، وإنها ليلذ لها الألم أحيانا لأن الألم مقترن بأحب الوظائف إلى طبيعتها وهي طبيعة الأمومة، ومتى لذ لها الخضوع والألم فلا عجب أن يلذ لها الضرب والهوان ممن يعنيها.
ويشبه هذا القول أن المرأة تعرض عمن يقبل عليها وتقبل على من يعرض عنها؛ لأن المرأة تتهم نفسها إذا أعرض عنها الرجل فلا يهدأ بالها حتى تدفع عنها التهمة وتسترد إليها الثقة بفتنتها وغوايتها. وقد تشعر أنها بلغت من الرجل كل ما توده إذا هي لمحت منه الإعجاب بها، فلا حاجة بها إلى المبالاة به؛ لأنها عرفت قيمتها لديه، إلا أن يكون الرجل قد أعجبها فهي تتخذ من إعجابه بها وسيلة إلى استبقائه في أثرها.
وذاك الذي يصدق على المرأة في هذه الخلة يصدق على كل ضعيف يلتمس قيمته في نظرات الناس إليه؛ فإنه ليقنع ويتعالى إذ لمح المبالاة به، وإنه ليخنع ويتردد إذا لمح الإعراض عنه. ومهما تكن المرأة جميلة فاتنة فهي تتهم جمالها وفتنتها إذا عجزت عن غزو رجل من الرجال بهما، ويقع في خاطرها على الأثر أنه يهملها؛ لأنه يعرف من النساء من هي أجمل وأفتن. فيكون رضاه أحب إليها من رضا المعجبين بها والحائمين حولها.
Página desconocida