قطرة المداد الأخيرة
لم يكن قد بقي في زجاجة الحبر إلا قطرة، وهممت أن أرشفها بقلمي؛ لأكتب فكرة في رأسي خشيت عليها أن تطير، وما إن مددت سنان القلم في حرص ليلتقطها، حتى نطقت القطرة المسحورة بلفظ عجيب! ولعل شيطانها قد أنطقها لترد على سخريتي بسخرية أشد، فقد كنت تهكمت على نفسي وأنا أمد إليها القلم، فحسبتني أتهكم عليها هي، تهكمت على نفسي بألا يكون بين يدي إلا هذه القطرة الضحلة من المداد، وألا يكون في رأسي إلا فكرة واحدة خفت عليها أن تطير، وبهذا الفقر المميت - فكرا وحبرا - أزعم لنفسي أنني كاتب قد ينفع الناس!
وسمعتني - أو سمعني شيطانها (فلكل شيء في هذه الدنيا شيطانه)، فبدأت بقولها: تلومون سواكم والعيب فيكم! أخذني الفزع، وتلفت حولي ملتمسا مصدر الصوت، فقالت قطرة المداد من داخل زجاجاتها: ها أنا ذا أحدثك من هنا! ومن هنا بدأ الحوار بيني وبينها.
قلت: ما الذي أغضبك مني يا صاحبتي؟ لم يعد عندي ما أكتب به إلا أنت، وأشفقت على فكرتي التي طافت برأسي، كأنها الطائر في الظلام؛ فتسمع رفيف جناحيه ولا تراه، أشفقت على فكرتي تلك ألا تجد فيك مدادا، يسعفها في الظهور، فماذا في ذلك مما يؤذيك؟
قالت: لا، ليس في هذا القول ما يؤذيني، ولكنني قارنت حالا بحال؛ فشعرت بالأسى.
قلت: وبين أي الحالين كانت المقارنة؟
قالت: بين حالكم أنتم اليوم، وحال أسلافكم من حملة الأقلام! كان القلم بين أصابع الكاتب قصبة من بوص، ولكنه كان إذا أجراه صاحبه على صفحة الورق، بعث الصرير يزغرد به لطرافة الفكر ولغزارته، أو بعث الأنين تعاطفا مع ما أحسه خلال الكلمات من حسرات، تقطعت بها أنفاس صاحبه، كانت تلك هي الحال مع أقلام آبائكم؛ لأنهم كانوا ذوي رسالة يؤدونها نحو حضارة يبنونها، وأما القلم في أيديكم أنتم - مع أنه لم يعد قطعة من الغاب، بل أصبح قطعة نفيسة من أجهزة العصر - أقول: أما القلم في أيديكم أنتم، فهو يجري صامتا في خيبة أمله، فلا صرير له ولا أنين، إنه إذا أحس مرة بنبض الإبداع والصدق ترتعش به الكلمات، فهو يشم رائحة الموت في الكلمات ألف مرة، القلم في أيديكم أنتم يأتمر ولا يأمر، إنه ينصت ولا يملي، إنه يظل في أيديكم أداة خرساء، إلى أن يحركه محرك من غير أنفسكم فيتحرك، إنه كسائر أجهزة عصره، إنه كالسيارة والطيارة وكالقنابل الذرية والمدافع الرشاشة؛ فكلها أجهزة تئز وتفرقع وتطير وتدمر، على شرط أن يريد لها ذلك مريد، وأما إذا لم يسعفها المريد بأمره، فإنها عندئذ هي الآلة الخرساء.
قلت: حتى إذا صح هذا الذي تقولين، فما لك أنت والأقلام؟ كانت أقلام الكاتبين فيما مضى ذوات صرير فخفت صريرها، وكانت تئن عند المؤلمات فسكت أنينها، هكذا تزعمين: لكنك أنت هي أنت في كلتا الحالتين؛ قطرة من مداد، فلا الصرير كان منك ولا الأنين! وما دمت قد بدأتني بهذا الاعتداء بغير موجب ولا داع، فيحق لي - إذن - أن أصارحك بشيء مما اختلجت به نفسي، عندما مددت إليك قلمي، ليرشفك استعدادا للكتابة: أتعلمين ماذا دار بنفسي عندئذ؟ أخذت أقول لنفسي في كثير من الحسرة: أهذه القطرة الهزيلة من السائل الأزرق في سواد، هي التي تعول عليها في تغيير قيم قديمة، لتضع مكانها قيما جديدة؟ أتظن أن نقطة الحبر هذه، إذا ما نثرتها على ورقك، عادت نقطة حبر كما كانت، بل اشتدت ضعفا عما كانت؛ لأنها بدأت متجمعة يؤازر بعضها بعضا، ثم انتثرت على الورق، فتفككت أوصالها وانحلت عراها! أهذه القطرة من السائل هي التي سيتقدم بها المجتمع بعد تخلف؟ أهي التي سيتعلم بها الشعب بعد جهالة؟ أهذه هي التي سيثرى بها الناس بعد فقر؟
قالت: أكانت كل هذه المرارة في نفسك عندما أردتني؟
قلت: نعم، وأكثر منها؛ ولذلك لعلك قد لاحظت تردد القلم وهو يمتد إليك.
Página desconocida