ومثل هذا التناقض الفاضح بين القول والفعل، هو ما يكرث حضارة عصرنا بأفدح الكوارث، وسيؤدي بها إلى النتائج نفسها، أعني أن يخيب الرجاء فتأكل الهرة بنيها وينتهي الأمر. إننا ننادي بضرورة التعاون والتفاهم بين الأمم، لكن طبيعة العصر تدعو هذه الأمة أن تتنافر وأن تتناكر ، وننادي بضرورة أن نلقي إلى عقولنا بزمامنا ، لكن طبيعة العصر تدعونا إلى اصطناع اللاعقل وخرافته، وننادي بضرورة السلام، وطبيعة العصر تدعونا إلى القتال أو الاستعداد للقتال، إننا ندعو إلى تحرير الأبدان والعقول، وطبيعة العصر تدعونا إلى أن نجعل المساكن الحديثة أقفاصا نسجن فيها الأبدان، وإلى أن نجعل من مدارسنا وجامعاتنا أقفاصا أخرى، تقيد الخيال وتكبل العقل، ندعي الديمقراطية، وطبيعة العصر تجعل رقاب الكثرة في قبضة القلة القوية أو الغنية، لقد أمدتنا علوم العصر وتقنياته بقوة المارد، لكنها كذلك أمدتنا بأخلاق المارد وأهدافه، وهي أخلاق وأهداف تنطوي على خبث وشر وتدمير، لقد كان التطور التاريخي ينحو بالإنسان، نحو مزيد من التعاطف والرحمة والعون، لكن عصرنا بطبيعة كيانه التقني (التكنولوجيا) يقلب المسار، فيعود بنا إلى مزيد من القسوة والعنف واللامبالاة. لقد بات عسيرا على الإنسان في عصرنا أن يكون إنسانا، وانقلبت ملايين المعوزين من البشر، أشبه شيء بقصاصات من الورق ذات بعدين، ألصقت على لوحات خربة. إننا اليوم نشهد أكثر مما شهد الناس قبلنا، ونسمع أكثر مما سمعوا، ونعرف أكثر مما عرفوا، ومع ذلك كله فإن الحياة تبدو لنا اليوم، أقل معنى مما بدت لإنسان الأمس؛ فلم تعد كثرة المرئي والمسموع والمعلوم، تزيد من قدرتنا على فهم أنفسنا، وفهم العالم من حولنا، فلو كنا أكثر فهما، وبالتالي أكثر إحساسا بالتبعة، لغيرنا من الأوضاع المحيطة بنا، ولكننا لم نفعل، كأنما نحن الرجل المخمور، ذهبت الخمر بوعيه وإرادته.
تلك شهادة كاتب معاصر، وشهادة أخرى يدلي بها شاهد آخر، هو «جورج شتاينر» (كاتب أمريكي، لكنه فرنسي المولد)، فيقول عن الحياة الثقافية في بريطانيا، إنها قد أنهكها التعب، فقعدت عن السير، فهي تجتاز اليوم حقبة ميتة من تاريخها الفكري، وإلا فأين فلاسفتها؟ لقد كاد ينعدم فيها خلال الأربعين عاما الماضية، كل جهد فلسفي مما يتناسب مع تاريخها، وكذلك قل في الإنتاج الأدبي، فلقد نضب معينها من العظماء، فانصرفت إلى ماضيها تجتره من جديد، وكأنما لسان حالهم يقول: إن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا، وليست فرنسا وغيرها من أقطار أوروبا، بأحسن من بريطانيا حالا (باستثناء وحيد، هو ألمانيا)، فلقد امتلأت رءوس الشباب بتهاويم اللامعقول والخرافة، ولعل ذلك كله راجع إلى تعب، أصابهم من الحياة العلمية والتقنية التي أنقضت ظهورهم، وأرقت جنوبهم في مضاجعها.
وشاهد ثالث هو «يواقيم كايزر»، يقول إن أهم ما يلفت النظر في وسط أوروبا، هو الشعور بخيبة الأمل فيما هو جديد؛ ولذلك ترى حركة قوية تعود بالناس إلى المسرح التقليدي القديم؛ في المسرح، وفي الشعر، وفي دور النشر، وغيرها من ميادين الفكر والأدب والفن، لقد نهضت في أوروبا ثورات ثقافية - كثورة الطلاب مثلا سنة 1968م - لكنها كانت ثورات أرادت تحطيم القديم، دون أن تقترح الحل البديل، وكثيرا ما لجأ دعاة الجديد إلى قديم يلطخونه بالأصباغ ليجملوه، كمن بحث عن الجمال في فتاة شابة، ولما لم يجده، صبغ وجه الجدة العجوز بالمساحيق.
هذه وغيرها شهادات نقع عليها حينا بعد حين عند كتاب أوروبا وأمريكا، ضيقا منهم بحضارة عصرهم التي صنعوها بأيديهم، فسرعان ما نلقف نحن أمثال هذه الشهادات فرحين بها؛ لندلل بها على وجوب التنكر للعصر وحضارته، قائلين ها هم أولاء شهود من أهله قد أدلوا بالشهادة، وبذلك ننسى الفرق الجوهري، بين رجل قوي يشعر بوعكة المرض، ورجل عليل يشعر بصحوة من عافية، لقد شرب هؤلاء كأس العصر حتى الثمالة، فلا بأس عليهم من داع، يدعو إلى شيء من كبح الجماح، وأما نحن فلم نجرع من حضارة العصر إلا جرعة، لا أظنها تزيد عن المضمضة إلا قليلا، وإذن فلا جناح علينا من غمس لأبداننا وعقولنا في علوم العصر وتقنياته، وسيمضي وقت طويل قبل أن يأخذنا ما أخذ أولئك من قلق.
ولكننا مع ذلك كله لا نخلو من مشكلة هي أعسر المشكلات، وهي الصيغة التي تجيء بها حضارة العصر لتمتزج بتراث لنا أصيل.
القلة الناقدة
يقال إن محاورة «المأدبة» - لأفلاطون - هي أروع ما قد كتبه ذلك الفيلسوف، إذا قيست محاوراته بموازين الفن الأدبي، ولعل الروعة في بنائها الفني، أن تكون العلة التي تفسر لنا اختلاف الناس ، في فهم المعنى المقصود بتلك المحاورة، فموضوع «المأدبة » - كما قد يعلم القارئ - هو الفكرة التي اشتهرت على ألسنة ناس باسم «الحب الأفلاطوني»، مع أن هذا الذي أسماه الناس بالحب الأفلاطوني، هو أشد الأشياء بعدا عن فكر الفيلسوف.
كان «أجاثون» - الشاعر المسرحي - قد ظفر عند أول ظهوره في جمهور الناس بشعره المسرحي الجديد، بإعجاب شعبي كاسح؛ مما جعل طائفة من عشاق الفن، تقيم مأدبة لتكريم الشاعر، امتلأت بصحاف الطعام وكئوس الشراب، وصخبت بالموسيقى والغناء، وفي الليلة التالية أقيمت مأدبة أخرى في بيت «أجاثون»، حضرها سقراط، لكن جماعة الأصدقاء هذه المرة، لم يريدوا بعد العشاء خمرا ولا موسيقى، ورغبوا في أن تكون مسلاتهم حوارا فلسفيا، يليق بأصحاب الكفايات العقلية الموجودة ليلتئذ في الحفل، واقترح أحد الحاضرين أن يدور حوارهم حول ما يمكن أن يتوجه به الإنسان من آيات المديح إلى إله الحب، ولقي الاقتراح ترحيبا من الحاضرين، وترحيبا من سقراط بصفة خاصة؛ فقد كان هذا الرجل يعيش بنصفه في شئون دنياه، وبنصفه الآخر في ملكوت الفكر، حتى ليمكن تشبيهه بكبار الصوفية، الذين قد يحيون مع الناس بأبدانهم، لكنهم يحاولون بأرواحهم، أن يشقوا حجب الغيب المستور؛ ولذلك لم يتوقع سقراط لموضوع الحب، الذي تأهب الحاضرون لطرحه في حوار، لم يتوقع له إلا أن يكون معناه المقصود، أقرب إلى معنى الحب الإلهي، كما يعهده الناس عند أهل التصوف.
كان سقراط يجلس في الحفل إلى جوار «أجاثون» - وهو الذي من أجل تكريمه لنجاحه الفني العظيم عند الجمهور، أقيمت مأدبة الأمس ومأدبة اليوم - وكان بين الحاضرين شاعر الكوميديا الموهوب «أرستوفان»، ولقد تعمد أفلاطون في روايته، أن يعطي الحديث عن الحب إلى الشاعرين المسرحيين على التوالي، فيتكلم أرستوفان، ثم يأتي بعده مباشرة أجاثون، وأن يقع حديثهما - كواسطة العقد - ويلحقهما سقراط بحديثه القوي العميق، ولماذا تعمد صاحب المحاورة، أن يضع حديث الشاعرين في منتصف الطريق؟ قد يكون ذلك ليجيء حديثهما أشبه بمحطة الراحة بين مرحلتين من كد العقل، فكأنما قد فرغ الحاضرون؛ ليشهدوا شاعرين بينهما ما بين «أرستوفان » و«أجاثون» من فارق بعيد، ماذا يقولان؟ وكيف تكون المقارنة بينهما، وهنا بيت القصيد من هذا المقال.
أما «أرستوفان» الموهوب، صاحب الفطرة الأدبية السليمة الفنية، فقد تناول الموضوع - موضوع الحب بين الجنسين - بأظرف ما تكون السخرية المحببة إلى النفوس، وأما «أجاثون» - الشاعر الناشئ الذي لقي كل ما لقيه عند «الجمهور» من إعجاب شديد - فلم يزد حديثه عن عبارات لفظية جوفاء، لا تحمل شيئا من دسم المعنى، حتى لكأن حديثه الفارغ ذاك، إهانة لعقول الحاضرين.
Página desconocida