والحق أن العصور المختلفة - وكذلك الشعوب المختلفة في العصر الواحد - إنما يتميز بعضها من بعض بنوع «اهتماماتها» أكثر مما تتميز بمجموعة الوقائع المحيطة بها، وتلك «الاهتمامات» هي فروع تنبثق من المناخ الوجداني العام، الذي يميل بالناس إلى أن يحبوا هذا الشيء، وأن ينفروا من ذلك، فقد تتشابه الوقائع المحيطة بمجموعتين من الناس، لكن تختلف اهتماماتهم، فتختلف بالتالي حياتهم الثقافية، كأن تهتم إحدى المجموعتين بالنتائج العملية، بغض النظر عن المبادئ المضمرة وراءها، على حين تهتم الأخرى بتلك المبادئ النظرية، مهما يكن من أمر النتائج المترتبة عليها، ومع هذا الاختلاف البعيد في وجهة النظر بينهما، تراهما متشابهتين في كونهما تشتغلان بالزراعة أو بالصناعة أو غير ذلك من وسائل العيش. إننا إذا وصفنا قوما بالروحانية، وقوما آخرين بالمادية، فلسنا نعني بذلك أن طرائق القومين في الزراعة أو في الصناعة، تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر، بل نعني أنهما - برغم تشابه المناشط العملية - يختلفان في محور «الاهتمام»، وبالتالي فهما يختلفان في المناخ الثقافي، الذي يعيشان في كنفه ويتنفسان هواءه. أريد أن أقول إن الواقع المرئي المسموع الملموس شيء، ونوع الاهتمام به شيء آخر، فقد يقصد رجلان إلى مسجد، أحدهما يريد الصلاة، والآخر يريد القيام ببحث أثري، والمسجد نفسه في كلتا الحالتين واحد لم يتغير، فالذي ميز بين الرجلين هو نوع الاهتمام به، فجعل أحدهما - في تلك اللحظة المعينة - عابدا، وجعل الآخر عالما.
تجانس الشعب الواحد في ثقافة واحدة، معناه أن أفراد ذلك الشعب، قد ربطتهم «اهتمامات» متشابهة، يتجهون بها جميعا نحو أفق واحد مشترك، ولا ينفي ذلك أن تتفاوت بينهم درجات الإجادة والإبداع، إذا كانوا من أهل الفكر أو الأدب والفن، فالاهتمام الواحد قد يتجسد في مائة مقالة أو كتاب، ومائة قصيدة من الشعر، ومائة لوحة أو تمثال أو أغنية، فلا تكون وحدانية الاهتمام بينها جميعا دليلا، على أنها من درجة فنية واحدة، ولولا هذا التجانس في الاهتمامات بين أفراد الشعب الواحد، لما استطاع مؤرخ الفكر أو مؤرخ الفن والأدب، أن يفرق بين العصور ولا بين الأمم.
على ضوء هذا كله، سألت نفسي ذات يوم قريب، كما أسلفت القول: ترى إلى أي حد يعيش رجال الفكر والأدب والفن بيننا في مناخ ثقافي واحد؟ بعبارة أخرى: إلى أي حد ينتمي هؤلاء جميعا - من الناحية الثقافية - إلى شعب واحد، وعصر واحد؟ ولست أزعم أنني كنت قد وصلت مع نفسي، إلى إجابة أتشبث بصوابها، ولكني لا أرى بأسا في أن أشرك القارئ معي، فيما خيل إلي أنه الجواب الصحيح.
وذلك أني رأيت في حياتنا الثقافية خيوطا مبعثرة، لم تنسج في قماشة واحدة، لا لأن أحدا من رجال الفكر النقدي، لم يتناولها بمنواله لينسجها معا في ثقافة موحدة، بل لأنها من التنافر بحيث يستحيل اجتماعها في رقعة واحدة، ولنختر لأنفسنا مجموعة من المفكرين والأدباء وأصحاب الفن، ثم نحاول أن نعيش مع أفرادها فيما أنتجوه، واحدا بعد واحد، لنرى: هل يتجانس إحساسنا، كلما انتقلنا من هذا المفكر في كتبه أو مقالاته، إلى ذلك الشاعر، ثم إلى ذلك الفنان؟ أعتقد أننا لن نجد ذلك الإحساس المتجانس إزاءهم جميعا، وسنشعر أحيانا عند الانتقال من أحدهم إلى الآخر، أننا في الحقيقة قد انتقلنا من عصر إلى عصر، أو من إقليم إلى إقليم.
ففي ميدان الفكر النظري، يتجاوز القرن الثامن الميلادي وأواخر القرن العشرين، كما تتجاوز أفكار فرنسية وإنجليزية وأمريكية وروسية، بحسب المورد الذي ينهل منه الكاتب، وأعجب من ذلك أن الكاتب الواحد قد يتشكل مع الأيام؛ لاختلاف الكتب التي وقعت له بين يديه بالمصادفة البحتة، وفي ميدان الفن التشكيلي يغلب أن يقدم لك الفنان لوحات، تؤكد عندك النزعة الذاتية الفردية؛ لأنها لوحات تعنى بأحكام الشكل من خط ولون، فلا يسعك أنت المشاهد إلا أن تعيش داخل بنائها، دون أن توحي لك بمضمون. ونقيض ذلك تراه في ميدان الفنون التعبيرية - من مسرح وشعر وموسيقى - فها هنا يغلب على الفنان إبراز الموضوع، حتى وإن جاوز في سبيل ذلك مواصفات الفن الرفيع في طريقة البناء. إنني هنا أصف ما أظن أني أراه، ولست بما أقوله أريد المفاضلة أو النقد، ولقد خلصت من ذلك كله إلى نتيجة رجحت لنفسي صوابها، وهي أننا في حياتنا الثقافية مفرقون، لم تجمعنا نظرة واحدة في مناخ وجداني واحد.
ثم جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، فرأينا كيف استقطبتنا الأحداث في جهاز عصبي واحد، فماذا يمنع أن يطول الأمد بهذه النظرة الواحدة، التي خلقت لنا في لحظة التوتر، بحيث تتحول إلى مناخ واحد دائم نعيش فيه جميعا، وإن اختلفت بيننا الوسائل والأساليب؟
حلقة مفقودة
هنالك في حياتنا الثقافية حلقة مفقودة - أو هكذا يخيل إلي - فلقد لبثت أمدا طويلا على هذا الإحساس، بأن البناء الثقافي في حياتنا تنقصه حلقة لتكتمل دورته، وظللت على هذا الإحساس الغامض بوجود النقص، دون أن أتبين على وجه التحديد والدقة ما طبيعته؟ وبالتالي كيف نعالجه؟ وها هي ذي فكرة تراودني، فلعل فيها قبسا يضيء.
ماذا كنا لنجد في حياة الناس الثقافية، لو كانت تلك الحياة مكتملة البناء؟ كنا لنجد فيها أركانا أساسية ثلاثة: أولها أدب يصور الواقع بتفصيلاته، على النحو الذي يرضي مقاييس الفن الأدبي في التصوير، فمن شأن القصة والمسرحية والشعر، أن تعطينا الشعور بما هو كائن، سواء كان هذا الواقع الموجود كائنا في دنيا الناس كما يعيشونها ، أو كان هذا الواقع الموجود كائنا في الصدور أملا وألما، وفي ظني أن أدباءنا - أصحاب القصة والمسرحية والشعر - قد أدوا معظم المطلوب، فمن ذا يزعم أنه إذا قرأ مجموعة ما أنتجه رجال الأدب، فإنه لن يخرج بصورة وافية، لأنماط العيش في القرية وفي المدينة، عند الأغنياء والأوساط والفقراء على حد سواء؟ من ذا يزعم أن القصة والمسرحية والشعر في أدبنا الحديث، قد قصرت كل التقصير، في تعقب ما يعتمل في صدور الناس، من ضروب الصراع وأنواع الكفاح: صراع بين القدرة الاقتصادية من ناحية، والأمل الطامح من ناحية أخرى، وكفاح للتغلب على العقبات، التي تحد من حرية الإنسان وكرامته؟
فالركن الأساسي الأول - من الأركان الثلاثة التي تخيلتها ضرورية لكل بناء ثقافي مكتمل الكيان - قد تحقق إلى حد كبير في حياتنا، وقد كان ينبغي أن يجيء بعد هذا التصوير الذي قدمه الأدباء في القصة والمسرحية والشعر، فكر نظري يستخلص من الصور المعروضة أوجه كمالها وأوجه نقصها، بالنسبة إلى حياة جديدة يراد خلقها، بعبارة أخرى: كان ينبغي أن يلحق «المفكر» «بالأديب»، فلئن قدم لنا الأديب حياتنا بكل ما فيها من ألوان الصراع والكفاح والأمل والألم، فإن طريق السير يقتضي أن ينهض رجل الفكر النظري بصياغة مجموعة القيم الجديدة، التي يراد لها أن تنتظم مرحلة من الحياة القادمة، يرجى أن تزول فيها تلك الألوان من الصراع، وأن يتحقق فيها ما يكافح الناس من أجله، حتى إذا ما فرغ الفكر النظري من تخطيط الحياة الجديدة، جاء بعدئذ الركن الأساسي الثالث في البناء، ألا وهو فريق التنفيذ؛ فرجال القانون يضعون التشريع الذي يتفق مع الوضع الجديد، ورجال الاقتصاد يوجهون النشاط الاقتصادي في الاتجاه الذي يرونه ملائما، ورجال الخدمات الاجتماعية بشتى صنوفها يؤدون ما ينتظر منهم أن يؤدوه لخلق المجتمع الجديد، ورجال السياسة وراء هذا كله يدبرون وينسقون؛ لتنسجم النغمات في لحن واحد.
Página desconocida