وجوه يومئذ ناضرة
يقابله قوله:
ووجوه يومئذ باسرة ، وهكذا يأخذ المؤلف في ذكر أمثلة كثيرة، تبين هذا التقابل المطرد بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» - كما يسميها.
فبأي قاسم مشترك يتحدث المعاصرون مع القدماء في شئون الفكر والأدب، إذا ما دار بينهم حديث عن «الكتابة» و«الجمال» و«الجلال»؟ ألم أكن على حق حين قلت إن الاختلاف بيننا محتوم؛ لأنه أمر ليس لنا فيه اختيار.
ديمقراطية بغير سياسة
فكرة الديمقراطية هي إحدى أفكار كثيرة، خلقها فلاسفة السياسة منذ قديم، ثم أخذوا يزيدونها مع الأيام خصوبة مضمون وثراء معنى، ولقد ازدادت بهذه الإضافات المتوالية، انتفاخا في حجمها، واتساعا في رقعة تطبيقها، حتى لتبدو آخر الأمر، وكأنها كائن مختلف عما كانت عليه أول الأمر، وسواء أكان فلاسفة السياسة هم الذين خلقوها من أذهانهم حقا، ثم عرضوها على الناس فاعتنقها الناس وطبقوها، أم كان هؤلاء الناس هم الذين أداروها في صدورهم آمالا غامضة، فجاء الفلاسفة ليخرجوها لهم مصوغة في عبارات تحددها، فلا اختلاف بين الطريقين في النتائج، وإحدى هذه النتائج التي ليس عليها اختلاف، هي أن فكرة الديمقراطية وغيرها من «الأفكار السياسية» لا تفهم حق الفهم، إلا مقرونة بزمن استعمالها، فنقول: كانت الديمقراطية في العصر الفلاني تعني كذا وكذا، وهي اليوم تعني كيت وكيت، بل ربما كان لها في العصر الواحد - كعصرنا الحاضر - معنى عند قوم يختلف عن معناها عند قوم آخرين.
وهكذا قل في سائر الأفكار الرئيسية في مجال السياسة، كالحرية، والمساواة، والاشتراكية وغيرها، وبغير هذا التحديد يحدث الخلط في أفهام الناس، خلطا نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، حين نرقب الناس وهم يتجادلون في هذه المعاني، فندرك كيف يتجادلون على غير أرض مشتركة، إذ يكون لكل منهم معنى في ذهنه، غير المعنى الذي يجادل به زميله.
ولقد عن لي خلال فترة زمنية قصيرة، أن أسجل عندي كل معنى للديمقراطية أجده واردا في الصحف، فإذا بالحصيلة كشكول عجيب، يدل أوضح الدلالة على مقدار التباعد بين الناس في تصورهم للديمقراطية ماذا تكون، برغم كونها محورا رئيسيا في الحياة السياسية كلها، وبرغم أننا نعيش معا في عصر واحد وفي بلد واحد؛ فالديمقراطية عند كاتب هي حرية المناقشة وتعدد الآراء، وهي عند كاتب آخر ارتفاع الحد الأدنى للأجور مع انخفاض الحد الأعلى، وعند كاتب ثالث هي التوزيع العادل لأعباء الضرائب، وهي عند كاتب رابع استقلال السلطات بعضها عن بعض، وهكذا.
وبينما كنت أجمع تلك الحصيلة من الصحف، لمعت في رأسي عبارة خرجت من عمق الذاكرة، وكأنها القبس يلمع فجأة وسط الظلام! كم هي عجيبة ذاكرة الإنسان فيما تحتفظ به، وما ترفض الاحتفاظ به، فيلقى في بحر النسيان! فما أكثر ما دهشت لحادثة قفزت إلى ذاكرتي، بغير داع ظاهر يدعوها إلى الظهور، ولحادثة أخرى أكد لها الذهن كدا لأستعيد تفصيلاتها، فلا تستجيب!
وأقول ذلك بمناسبة تلك العبارة التي وثبت إلى الذاكرة فجأة، وبغير داع ظاهر، وأعني بها عبارة كنت سمعتها أيام الدراسة من أستاذ، قالها لنا في سياق حديث له عن رحلة كولمبس، التي كشف بها أمريكا، إذ قالك ذلك الأستاذ إن رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعد! لكن ما علاقة كولمبس ورحلته، إن كانت نتائجها كلها قد ظهرت أو لم تظهر، ما علاقتها بما أنا بصدد الحديث فيه؟ وإني لأكاد أوقن أن هذه العبارة حين سمعتها من قائلها، لم تكن قد أثارت في نفسي شيئا من الاهتمام بتحليلها تحليلا أتقصى به معانيها القريبة والبعيدة، لكنها حين جاءتني الآن، غير مدعوة ولا مطلوبة، وقفت عندها لحظة، فإذا هي مصباح ينير الطريق.
Página desconocida