وفي الأرض بقعة واحدة تكتنف مختلف العروق الممثلة لجميع تطورات الماضي تقريبا، وتلك البقعة هي ذلك القطر الواسع العجيب الذي وقفنا هذا السفر لدرسه؛ ففي ذلك القطر إجمال لتاريخ البشر ما اشتمل على جميع الأجيال، وفيه تبدو جميع الحضارات حية أو ماثلة في عظيم الآثار، وفيه نبصر ما اعتور نظمنا وعاداتنا من متعاقب الصور والأجيال منذ البداءة إلى الزمن الحاضر.
ويكاد يكون مفقودا ما اصطلح على تسميته بحوادث التاريخ التي يظن أنها ضرورية لبعث ماضي الهند، ولا نأسف على ذلك كثيرا، ما أدت أخبار الملاحم والفتوح وأنباء الأسر المالكة التي تملأ كتب التاريخ إلى حجب سير حياة الأمم الحقيقية وإخفائها، وما ود المفكرون أن يعرفوا مجرى الأخيلة والمعتقدات والمشاعر السائدة لأحد الأجيال، وتأثير مختلف العوامل التي أوجبتها.
وفي كتابنا الذي جعلناه مقدمة لتاريخ الحضارات
1
بينا كثرة تلك العوامل، وأن الأمم جاوزت مراحل تطور متماثلة مع تباين تاريخ هذه الأمم الظاهر، وأنه إذا ما رئي أحيانا تباين واضح بين أمتين فلمصاقبتهما أوجه تطور مختلفة على الخصوص.
ونحن، وإن لم يكن لدينا تاريخ للهند بالمعنى الصحيح، نجد في الهند من الآثار الدينية والفنية والأدبية ما يبلغ قدم بعضه نحو ثلاثة آلاف سنة، ولهذه الآثار من الأهمية ما ليس لقصص المؤرخين؛ فبمثل هذه الآثار ننفذ حياة الأمم، فنقوش معبد هندوسي خرب خير من تواريخ الملوك في إخبارنا عن سرائر قدماء الهندوس، وقل مثل هذا عن كتب الأدباء والقصائد والأقاصيص والأساطير الدالة على تلك السرائر.
وفي الآثار الأدبية يجب أن يبحث عن روح الأمم؛ فالشعراء والقاصون إذ كانوا سريعي الانفعال شديدي التأثر فإنهم يعانون تأثير بيئتهم؛ أي تأثير عرقهم وعصرهم، أكثر مما يعانيه العلماء والمفكرون، ويبدون مرآة صادقة بليغة لهما.
أجل، إن الشعراء والقاصين يشوهون ما يصفونه، ويبالغون فيما يعبرون عنه، ولكنه ينطوي تحت ذلك التشويه، وتلك المبالغة معان كثيرة؛ فالشعراء والقاصون يتقمصون روح زمنهم فيألمون ويترنمون بآلام أبناء قومهم ومسارهم وأمانيهم، ويترجمون عن عواطف أممهم وعن عقائد عصرهم ومشاعره، فلا يكون أمر أية حضارة مجهولا ما استوعبت ذاكرة الناس قصائد الشعراء وأقاصيص القاصين.
بيد أن فهم معنى آثار الشعب الأدبية والفنية، ولا سيما آثار الهندوس، يتطلب دراسة هذه الآثار في أماكنها، فبدراسة الحضارات في الأماكن التي ظهرت فيها وكملت نتمكن من الاطلاع على روحها، ونتحرر من الحكم فيها بأفكارنا العصرية، فلن يقدر علماء أوروبا على اكتناه عبقرية أمة آسيوية ووصفها، بتصفح ما في المكتبات من الكتب.
حقا أن الهوة التي تفصل بين أفكار رجل غربي عصري وأفكار رجل شرقي عظيمة جدا، فما في أفكار الغربي من الدقة والإحكام يختلف كثيرا عما في أفكار الشرقي من الإبهام والتموج، ومن العبث أن يطمع الغربي في استنباط ثبات أفكار الشرقيين من عدم تحول عاداتهم، وبلغت أفكار الهندوسي ومعتقداته من الغموض والتذبذب ما تقصر معه لغاتنا اللاتينية «الفقيرة في النعوت مع ما فيها من ضبط» عن الإفصاح عنها في الغالب. •••
Página desconocida