وعندي أن أهل البدو من العرب، مع بقائهم على الفطرة وعدم تحولهم قيد أنملة عن الحال
11
الابتدائية التي كانوا عليها منذ أقدم العصور، أفضل من جميع أمم الرعاة في العالم، وقد أتيح لي أن أحادثهم غير مرة، فظهر لي أن مبادئهم في الحياة تعدل مبادئ كثير من الأوربيين العريقين في الحضارة، وسنرى أن الأعراب الأجلاف بعاداتهم شعراء بتصوراتهم، ويندر أن يكون الأعرابي غير شاعر.
والأعرابي، وهو شاعر، صبي في خلقه، وينطوي تحت دعته الظاهرة من التقلب ما لا يشاهد مثله إلا في الأولاد والنساء، وهو كهؤلاء لا يتأثر إلا بعامل الساعة التي يكون فيها، ولا تستهويه سوى ظواهر الأمور، ويبهره الضجيج والضوضاء والبهرج، وفي فتنه سر اجتذابه.
وأمر مثل هذا يشاهد في العروق، والأمم الفطرية، وما إليها من النساء والصبية الذين هم عنوان أدوار التطور البشري الأولي، والحق أن الأعرابي جلف ذكي لم يصعد درجة في سلم الحضارة منذ ألوف السنين، ولم يعان ما عاناه الرجل المتمدن من التحول المتراكم بتوالي الأجيال، وإذا صح ما نعتقده من أن اختلاف السجايا الخلقية يكفي لوجود فروق بعيدة الغور بين الناس أمكننا أن نقول: «إنه يتألف من العرب المتحضرين والأعراب عرقان تفصل بينهما هوة عميقة.»
ويختلف عرب الجزيرة الحضريون، الذين نبحث في أمرهم الآن، عن أولئك الأعراب اختلافا كبيرا، فأهل الحضر من عرب الجزيرة لم يكونوا أجلافا كما يعتقد على العموم، وعند پلغريڨ أن السياح الذين لم يزوروا سوى بعض الأماكن الساحلية التي لا أهمية لها في جزيرة العرب الواسعة هم مصدر هذا الرأي الفاسد، وينظر پلغريڨ إلى أهل عمان بعين التقدير والإعجاب حيث يبحث في ثقافتهم، ولا يصعب، كما يرى، وجود أناس من أهل نجد قادرين، كالإنكليز، على صنع الآلات ومد الخطوط الحديد، وليس من المجهول شأن جامعة زبيد وجامعة ذمار اليمنيتين اللتين، وإن كانتا دون جامعة الأزهر المصرية أهمية، تساعدان مثلها على نشر العلم القويم بين أولي البصائر من الأهلين.
ومن دأبنا في الوقت الحاضر أن ننظر إلى عرب الجزيرة من خلال المثل الكئيبة التي نراها في سورية ومصر والجزائر، والتي لا تنم إلا على أناس أحطتهم ضروب الاختلاط والعبودية، وعلى الباحث الذي يرغب في استبار العرب أن يسيح في مهد العروبة، وأن يدرس أحوال العرب فيها عن كثب، فقد عد پلغريڨ عرب الجزيرة الذين عاش بينهم زمنا طويلا من أعظم أمم الأرض كرما ونبلا، قال پلغريڨ:
إن أهل الحضر من العرب من أنبل شعوب الأرض وأكرمهم، وهم جديرون بهذا المديح، وقد أكثرت من السياحة في أنحاء العالم، وكانت لي صلات وثيقة بمختلف الأمم الإفريقية والآسيوية والأوربية، فظهر لي أن الأمم التي يفضل أفرادها على سكان جزيرة العرب الوسطى قليلة إلى الغاية.
ويتكلم أولئك الحضريون العرب بلغة الأعراب مع ذلك، ويجري في عروقهم ما يجري في عروق الأعراب من الدماء، وما أبعد المسافة بين الفريقين!
شكل 2-7: مسلمون من النوبة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
Página desconocida