وقال لوبون، بعد أن ذكر الفظائع الوحشية وأعمال التخريب والسلب التي اقترفها الصليبيون في طريقهم إلى القدس، وذبحهم لمئات الألوف من المسلمين والعرب والأبرياء: «كان سلوكهم حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى.»
ثم قال لوبون، الذي روى لنا أن أول ما بدأ به قائد الحملة الصليبية الثالثة ريكاردوس هو قتله صبرا ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع لهم عهدا بحقن دمائهم: «ليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردوس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته.»
وتمنى العلامة لوبون أن يكون العرب قد استولوا على العالم، ومنه أوربة، لما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا، فأعرب عن ذلك بقوله: «يروى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكر، بعد فتح إسپانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفق موسى بن نصير لذلك لجعل أوربة مسلمة، ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الذي لم تعرفه إسپانية بفضل العرب.»
6
ولم يكن دور الفتح سوى وجه من وجوه تاريخ العرب، ولم تعن إقامة دولة عظيمة إبداع حضارة، والعرب قد أبدعوا حضارة جديدة، ولم يلبث دور ازدهار حضارتهم أن بدأ بعد أن فرغوا من فتوحهم، وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية وجهوا مثله إلى الآداب والعلوم والصناعة، وأبدعوا فيها بسرعة ما أبدعوه في ضروب القتال، وكان لا بد من وجود عوامل لصعود العرب في سلم الحضارة والإبداع فيها.
رجع العلامة غوستاف لوبون هذه العوامل، خلا ما تقدم، إلى بيئة العرب وذكائهم اللامع وخيالهم الخصب وحيويتهم، وقال:
لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحاري جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي، كما أدركوا تفوقها الحربي فيما مضى، فجدوا، من فورهم؛ ليكونوا على مستواها.
ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاء مثقفا ... وقد أثبتنا أن العرب كانوا أيام الرسول ذوي ثقافة أدبية رفيعة.
والحق أن الرجل المثقف قد يجهل أمورا كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة؛ لما فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم، الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد، الذي أبدوا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة، التي واجهتهم فجأة، بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البزنطيين منذ زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدمهم السريع ... ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض سوى وقت قصير حتى طبعوا على فن العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابعهم الخاص الذي يبدو أول وهلة في آثارهم.
Página desconocida